أنحاء البلاد في فرنسا و في أراضي ما بعد البحار حيث بدأت موجة الاحتجاجات على زيادة رسوم المحروقات يوم السبت 17 نوفمبر و جمعت 300 ألف متظاهر في أكثر من 2000 نقطة في مختلف الجهات. و خلفت التجمعات الاحتجاجية وعمليات غلق الطرق ومسالك تزويد البنزين قتيلين في صفوف المتظاهرين ومئات الجرحى منهم 17 في حالة حرجة. وتحولت المظاهرات في جزيرة لاريونيون إلى انتفاضة شعبية غير منظمة خلفت 17 جريحا في صفوف رجال الأمن مما اضطر رئيس الإقليم إلى إعلان حالة منع الجولان بسبب عمليات العنف و الحرق للممتلكات الخاصة والعمومية.
وكان رئيس الوزراء إدوارد فيليب قد أعلن منذ أسبوع، و قبل انطلاق التجمعات، عن عدد من الإجراءات للحد من نسبة الزيادات لفائدة الفئات الضعيفة بقدر 500 مليون يورو وذلك في محاولة لإفشال الحراك الشعبي. لكن التحركات الشعبية العفوية التي لم تستند إلى التنظيمات المعروفة مثل النقابات و الجمعيات و الأحزاب، بل ركزت على الفئات الشعبية الغاضبة غير المنظمة ، لم يكن لها قيادة تمكنها من التفاوض مع السلطات. و لم تستطع مع مرور الأيام تمرير طلباتها في إعادة النظر في الزيادات و في حماية القدرة الشرائية للمواطن العادي.
و أعلن وزير الداخلية الفرنسي كريستوف كاستنار أن عملية الإحتجاج «انحرفت كليا» و أصبحت تتمحور حول «الراديكاليين» الذين لا يفوق عددهم 10 آلاف شخص، حسب أرقام الوزارة. وقرر إعطاء أوامره برفع الحواجز و تفكيك المجموعات التي تعطل سير الشاحنات والسيارات و تغلق أبواب مراكز تزويد المحروقات. و قامت الشرطة في مختلف أنحاء البلاد بإيقاف عشرات المتظاهرين الذين استخدموا العنف ضد قوات الشرطة و الأمن و قاموا بإتلاف الممتلكات العمومية و الخاصة. و لم تتمكن الحكومة لا من إيقاف الحراك الشعبي الغاضب و لا من تقديم تنازلات إضافية من أجل تلبية المطالب وإيقاف مختلف التحركات. و أعلنت بعض الجهات المنظمة للحراك نيتها تنظيم مظاهرة كبرى في العاصمة باريس يوم السبت 24 نوفمبر القادم لشل حركة السير فيها و التظاهر أمام قصر الرئاسة.
شعارات مختلفة
الملاحظ في هذا الحراك الشعبي العفوي أن الشعارات المرفوعة من قبل المتظاهرين كانت تركز على الغضب الشعبي و على رفض الزيادات في رسوم المحروقات وكل الزيادات في الأداء التي طبقتها الحكومة في خطتها لتقليص عجز الموازنة والدخول في الإصلاحات الإيكولوجية المبرمجة و القاضية بالتحول من استخدام المحروقات إلى استعمال طاقات بديلة مثل الغاز الطبيعي والكهرباء في آلات التدفئة والنقل. و قد التزمت عديد المجموعات بهذا التوجه السائد رافعة شعارات مكتوبة تدعو إلى “التخلي عن الضرائب على المحروقات” لما لها من تأثير على المقدرة الشرائية للعائلات و الشغالين و أصحاب الشركات الصغرى و الحرفيين. وأكدت بعض اللافتات على أن «فرنسا بطل العالم في الضرائب» و أخرى أن «السائقين هم البقرة الحلوب».
لكن في بعض الجهات أخذت التحركات منهجا سياسيا ندد بغلاء المعيشة و بالتوظيف السياسي للحراك («لا للأحزاب و النقابات») علما و أن بعض الأحزاب اليمينية واليسارية نادت بالمساهمة في الحراك دون أن يشارك زعماؤها في تنظيم المظاهرات و استغلالها لصالحها. و ركزت جل المجموعات على التنديد بشخص الرئيس إيمانويل ماكرون معتبرين أنـه «رئيس الأغنياء» وطالب بعضهم برحيله رافعين لافتات تقول «ماكرون إرحل»، «ماكرون، استقالة»، «ماكرون، نحن لسنا بنوك». و قامت بعض المجموعات بالاتجاه يوم السبت نحو قصر الإيليزي قبل أن تصدها قوات الأمن باستخدام الغاز المسيل للدموع .
8،8 مليون من الفقراء
300 ألف فرنسي في الشوارع عبروا عن غضب 8،8 مليون مواطن «فقير» رصدتهم أجهزة معهد الإحصاء الوطني في آخر تقرير لها صدر هذه السنة. و لو أن نسبة الفقر في تقهقر مقارنة مع أرقام 2015 فإن 14 % من الشعب الفرنسي لا يزالون يعيشون تحت مستوى الفقر أي، بالنسبة لمستوى المعيشة المتوسط المحدد ب 1026 يورو بالشهر من دخل الأفراد. و قد تقهقر مستوى المعيشة من 1710 يورو شهريا بالنسبة لعام 2016. وهي خسارة في مستوى المعيشة تقرها المؤسسات الجمهورية بقدر 674 يورو شهريا. في نفس الوقت قامت الحكومة الحالية بخفض نسبة الضرائب للفئات الغنية بقصد تشجيعها على الإستثمار دون أن يترجم ذلك إلى حقيقة تمكن النظام الإنتاجي من توفير مواطن شغل إضافية. و تعتبر فرنسا في ذيل قائمة الدول الأوروبية من حيث نسب البطالة حيث تستقر بين 9 و 10 % منذ عشرين عاما. و لم تتمكن الحكومات المتعاقبة من خفض هذه النسبة. و إن شهدت نسبة البطالة تراجعا نسبيا خلال السنتين الماضيتين فهي لا تضاهي النسب المسجلة في ألمانيا (8،3 %) وبريطانيا (5،3 %). وتمكنت اسبانيا بعد أزمة 2008 من خفض 30% من البطالة في حين سجلت اليونان و إيطاليا و البلدان الاسكندينافية نجاحات ملموسة في خفض نسبة البطالة عبر سياسات متجددة لم تقم بها فرنسا بل تمسكت بالدفاع عن منوالها الاجتماعي والاقتصادي المكلف.
بعد تحاشي الحديث في موضوع انتفاضة «الستائر الصفر» و غضب الشارع الفرنسي عبر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن ضرورة «فتح الحوار» مع المتظاهرين للتوصل إلى حل مرضي. لكنه لم يشر إلى نوعية الحوار و مستوى التمثيلية للمجموعات المتظاهرة علما أنها عفوية و ليس لها قيادات موحدة. بل أن بعضها يرفض أي «تقنين» للحراك و أي هيكلة تفقدها عفويتها بل تتمسك بالمشاركة الديمقراطية التي تمكن مواطنين عاديين من الخروج إلى الشارع للتظاهر مباشرة من اجل حقوقهم المشروعة في العيش الكريم بدون اللجوء إلى ممثلين لهم. مع تحرك قصر الإيليزي سوف تعطي الأيام القادمة الإشارة إلى حوار وطني طالبت به أيضا النقابات والأحزاب من أجل عمل وطني موحد يمكن من الدخول في تحول إيكولوجي مقبول.