باغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي داخل القنصلية السعودية باسطنبول يوم 2 أكتوبر الماضي بالمهنية المعروفة لدى مختلف أجهزة الإعلام من صحافة مكتوبة و مرئية و مسموعة. و كانت السلطات الفرنسية، و لا تزال ،حذرة في التعبير عن موقف رسمي صريح تجاه الاغتيال بالرغم من أن جل وسائل الإعلام جعلت منه أحد أهم المواضيع اليومية المتداولة.
الموقف الرئيسي المحدد لتدخلات كبار المسؤولين جاء على لسان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي اعتبر أن فرنسا لا تعتبر المملكة العربية السعودية «حريفا بل حليفا استراتيجيا» و أن الموقف الفرنسي مبني على أسس سياسية وليس على مصالح اقتصادية. وكان ذلك الإطار العام الذي عبرت داخله بعض الأصوات الرسمية عن الموقف الفرنسي.
من ذلك أن طالب وزير الخارجية جون إيف لو دريان بـ «تحقيق واسع و سريع» معتبرا المعلومات المقدمة من قبل السلطات في المملكة غير كافية. أما الموقف الأكثر صراحة فجاء على لسان برنو لومار وزير الإقتصاد والمالية الذي أدلى للقناة الثالثة الفرنسية حديثا تعرض فيه لقضية خاشقجي إذ قال: «ألاحظ أن السلطات السعودية غيرت اتجاهها، اعترفت بالوقائع، و تبنت مسؤولية، وهو تقدم». و أضاف: «لكن الوقائع خطرة، لا بد أن تتجلى الحقيقة كاملة». في ما يخص العلاقة بين البلدين ربط الوزير ذلك بمدى تمادي السعوديين في كشف الحقيقة: « إما أن تواصل السلطات (السعودية) في اتجاه كشف الحقيقة عبر تحقيق جاد و وقائع ثابتة، و في هذه الحالة أعتقد أن ذلك سوف يساهم في المحافظة على علاقات استراتيجية قوية مع السعودية. و على خلاف ذلك، لا أحد سوف يفهم، لا فرنسا و لا الإتحاد الأوروبي و لا الولايات المتحدة الأمريكية.» و أضاف: «لا يمكن أن يكون لنا علاقات ثقة لا تنبني على الحقيقة».
التوازن المستحيل
لتجسيد موقفه، أعلن برونو لو مار عن عدم مشاركته في مبادرة مستقبل الاستثمار («دافوس الصحراء») المنعقد من 23 إلى 25 أكتوبر بالعاصمة السعودية الرياض خلافا لزميله الأمريكي الذي أكد على متانة العلاقة مع البلدين و«التي لا يمكن الإضرار بها أبدا». وهو الفارق بين فرنسا و الولايات المتحدة الذي تقره الأرقام. ففي حين تأتي الولايات المتحدة في طليعة البلدان التي تتمتع بتبادل اقتصادي وتجاري مع المملكة تحل فرنسا في المرتبة 21 بمعدل 6،8 مليار يورو من المبادلات التجارية غير العسكرية أي لا يفوق 10 % من الرقم الأمريكي. و لا تتمتع فرنسا بأكثر من 3 % من السوق السعودية. فعدم المشاركة في المنتدى، و تقليل الضغط على السلطات السعودية، لا يضر بواقع التبادل التجاري الحالي ولا بمستوى العلاقات بين البلدين.
لكن الجانب الفرنسي لا يمكنه أن يساند السلطات السعودية لما لقضية اغتيال خاشقجي من حساسية في بلاد حقوق الإنسان. منذ أن انطلقت وسائل الإعلام في تغطية ملابسات الحادثة الأليمة أصبحت أصابع الإتهام تتجه للقصر الملكي في الرياض و لم يسمح ذلك لقصر الإيليزي و للحكومة أن تعلن مساندتها له. بل تحاول أن تعبر «في آن واحد» – كما هي عادة ماكرون – عن تمسكها باحترام حقوق الإنسان وحرية الصحافة خاصة و في نفس الوقت لا تأخذ موقفا صريحا من «جريمة دولة» أصبحت واضحة للجميع.
وأعلنت في هذا الصدد مصادر في قصر الإيليزي أن «الرئيس ماكرون سوف يتحدث في الأيام القادمة مع الملك سلمان» و أن «وزير الإقتصاد و المالية اخذ قراره بالتشاور مع القصر. في انتظار انتهاء التحقيق لم يكن مستحسنا أن تمثل فرنسا على هذا المستوى « في مبادرة متقبل الإستثمار. و أضاف المصدر أن مؤسسات اقتصادية فرنسية سوف تشارك فيه. توزيع المهام هذا يعطي نظرة على الحرج الذي وجدت فرنسا نفسها فيه. فهي التي ترغب في تمتين علاقاتها الاقتصادية مع السعودية وتستقبل مسؤوليها بحفاوة كبيرة و تسمح لولي العهد محمد بن سلمان بامتلاك قصر لويس الرابع عشر في مدينة لوفسيان الذي اشتراه في سبتمبر 2015 بمبلغ يساوي 275 مليون يورو وهي التي أيضا تريد الحفاظ على الدعم المالي (100 مليون دولار) السعودي لخطة مقاومة الإرهاب في منطقة الصحراء الإفريقية. و في نفس الوقت تسهر السلطات الفرنسية على أخذ بعين الإعتبار موقف الرأي العام الفرنسي وهي على مشارف انتخابات أوروبية حاسمة.
«جريمة سياسية» مخطط لها
لكن خطاب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أمام البرلمان يوم الثلاثاء الذي أكد على وقوع «جريمة سياسية» مخطط لها من قبل السلطات السعودية لا تخدم الحذر الفرنسي المسجل إلى حد اليوم. من البديهي أن الرئيس التركي كتم على القرائن التي حصل عليها من خلال فرق البحث الثلاثة التي تعمل على كشف الحقيقة وهي الفريق المشترك السعودي التركي و فريق المخابرات التركية الذي يعمل مع وكالة المخابرات الأمريكية و فريق المدعي العام. و كلها حصلت على أدلة وشهادات لم يدل بمحتواها الرئيس التركي أمام البرلمان لكن رمى بالكرة في الملعب السعودي مطالبا الملك سلمان بكشف كل الحقيقة عن موقع الجثة و عن الجناة.
المسألة سوف تبقى مفتوحة لحد بلورة «أجوبة جديدة». و لا يعرف إن كانت السعودية قادرة على تخطي الأزمة باستخدام كبش فداء يرضي الدول الغربية و يسكت أنقرا. المكالمات الهاتفية بين رؤساء الدول العظمى و الملك السعودي و التي سوف تشارك فيها فرنسا بإمكانها بلورة «سيناريو» استهلاكي للرأي العام العالمي يخرج القصر الملكي من بوتقة الاتهام على أن تفكر المملكة في إعادة ترتيب البيت لاحقا بعيدا عن الضغوط الدولية المعلنة اليوم.