بسبب عدم توصلها إلى حلّ توافقي يرضي كل الأطراف. و كان البيان الختامي للقمة قد أوحى بالتوصّل إلى اتفاق في المواضيع المطروحة على طاولة النقاش بين الدول الأعضاء. لكن المواقف التي تلت القمة عبّرت بوضوح على هشاشة التركيبة الأوروبية مما جعل الخبراء في أوروبا ينبهون من خطورة تواصل “الإنفصام” بين القرار السياسي الجماعي والمواقف الأحاديّة لمختلف الدول. وهو ما يبشر بشلّ العمل الجماعي على حل الأزمات العالقة والتي تؤثر مباشرة في استقرار و مستقبل الإتحاد الأوروبي: الأمن، الدفاع المشترك، دعم العملة المشتركة والهجرة.
بعد انتفاضة إيطاليا ضد تقاعس الدول الأعضاء في أخذ قسطها من مجموع المهاجرين القادمين على الأراضي الإيطالية ورفض بعضها أي مهاجر ولو كان لاجئا، تحرّكت الحكومات ، وفي مقدمتها الفرنسية والألمانية، لتقديم حل لمسألة الهجرة قصد التركيز على المسائل التي يراها الثنائي أساسية وهي إرساء الميزانية الأوروبيّة ودعم اليورو في وجه الهيمنة الأمريكية. لكن النقاش الحاد في القمّة الذي فرضه الجانب الإيطالي و إعلانه عدم قبول المقترحات المتعلقة بملف الهجرة خلف تصدعا في صفوف الدّول الأعضاء. وبالرغم من قبولها، في آخر المطاف، الإجراءات المقترحة فإن التصريحات الرسمية بعد القمّة كرّست الانقسامات التي بانت بالوضوح بين الدول الكبرى التي تريد تطوير الهيكلة ومردود للمؤسسات الأوروبية وتلك التي التحقت بالمشروع الأوروبي والتي أظهرت تحررا من قوانينه وإجراءاته الإدارية مثل مجموعة «فيسغراد» وبولونيا.
صعود اليمين المتطرف للحكومة في النمسا و إيطاليا عقد الأوضاع في الإتحاد الأوروبي . و التحق مؤخرا وزير الداخلية الألماني، شريك المستشارة أنجيلا ميركل في الحكومة، بصف المنادين باتخاذ سياسة حازمة ضد «المهاجرين الاقتصاديين» وهدّد بطردهم نحو البلدان التي قدموا منها محدثا أزمة داخل الائتلاف الحكومي الألماني. التقاء الوزير الألماني بمواقف النمسا و إيطاليا أربك التوازن الأوروبي و أصبح يهدد استقرار الحكومة الألمانية.
الحل الأوروبي: معسكرات للمهاجرين
للخروج من القمة بشبه وفاق يعطي القادة مهلة للتوصل إلى حل يرضي «المنتفضين» من الدول، أقرت القمة الأوروبية جملة من الإجراءات، همها الوحيد إرضاء الجانب الإيطالي ثالث قوة اقتصادية في الاتحاد وتمثلت أساسا في الإقرار بالمقترحات الإيطالية: تركيز معسكرات للمهاجرين القادمين من البحر، تحقيق مشروع إرساء معسكرات للمهاجرين في الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، ودعم الأعمال الإيطالية ماليا لفرض حصار على القادمين من ليبيا بالتعاون مع السلطات الليبية. باقي القرارات المتعلقة بالأمن والمشروع الدفاعي المشترك والعملة والميزانية تم إقرارها لكن تحقيقها يبقى رهين اجتماعات قادمة.
مباشرة بعد القمة عبّر عن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رفضه إرساء معسكرات للمهاجرين على التراب الفرنسي. وهدد وزير الداخلية الألماني بطرد المهاجرين غير القانونيين نحو الدول الأوروبية الأخرى (النمسا وإيطاليا). و قررت الحكومة الإيطالية رفض إرساء البواخر التابعة لجمعيات الإغاثة في المواني الإيطالية. و رجعت المسألة للمربع الأول. أما المستشارة الألمانية فهي تتخبط لإنقاذ الائتلاف الحكومي وهي تواجه معارضة من شريكها الحزب المسيحي الاجتماعي و الحزب الاشتراكي. و توصلت لحل مبدئي أرضى الجميع يقضي بنقل المهاجرين نحو مراكز الأمن الحدودي دون إرساء معسكرات و أسلاك شائكة لا يرغب في رؤيتها الرأي العام الألماني لما لها من حدة في المخيلة الجماعية للشعب الألماني منذ الحرب العالمية الثانية.
نهاية المشروع الأوروبي؟
تصدع الإتحاد الأوروبي و تعدد الانشقاقات في صلبه جعل عددا من الخبراء المختصين بالشأن الأوروبي يعتبرون أنه، على صيغة الحالية، وصل إلى نهايته. مستقبل العلاقات بين الدول الأعضاء، على ضوء الرهانات الإستراتيجية و تقلبات المواقف على المستوى الدولي، خاصة بتغيير الموقف الأمريكي تجاه العلاقات الاقتصادية و التضامن العسكري في منظمة الحلف الأطلسي، و تنامي الدور الصيني، وخروج بريطانيا من الإتحاد، كل ذلك يحتم تغييرا جذريا في المشروع الأوروبي لا مناص منه رغبت في ذلك الدول الأعضاء أو لم ترغب.
و لو أن في الظاهر المشروع الفرنسي لأوروبا الذي يحمله إيمانويل ماكرون شهد تقهقرا بسبب الموقف الإيطالي، فإن جل الخبراء يعتبرون أنه الحل الأنسب و الوحيد اليوم لفرض الدور الأوروبي على الساحة الدولية. و إن التقارب الفرنسي الألماني المبني على قبول ميزانية أوروبية و حوكمة جديدة لمنطقة اليورو و الشروع في تكوين نظام عسكري مشترك يشكل اللبنة الأولى لإطلاق اتحاد أوروبي جديد يتم بناؤه على أساس رغبة المشاركين في الالتحاق بالثنائي القائد عسكريا و اقتصاديا للمشروع المشترك. وهو ما يبني وحدة ذات هياكل مختلفة و مستويات مشاركة متباينة في إطار مشترك سياسي واستراتيجي و اقتصادي و عسكري. و يصبح بذلك الانتماء إلى الإتحاد الأوروبي رهن القرار الوطني و لا يحد من تطور الدول الأخرى نحو الاندماج و توحيد القوانين و الإجراءات باستخدام حق النقض. وهو المشروع الذي ينادي به الرئيس إيمانويل ماكرون من أجل إعطاء أوروبا دورا و صوتا فاعلا في العلاقات الدولية المتعددة الأقطاب و الذي التحقت به المستشارة أنجيلا ميركل. في انتظار تحقيق هذا المشروع و في ظل الحروب الأهلية التي تطوق أوروبا في إفريقيا والشرق الأوسط، سوف تعمل إيطاليا على ضمان حدودها عسكريا بفرض حصار بحري على ليبيا، في مرحلة أولى، من أجل منع زوارق الموت من الوصول للمياه الإقليمية الإيطالية. ثم يأتي دور بلدان شمال إفريقيا الأخرى التي تصدر المهاجرين عبر البحر. كلف ذلك ما كلف.