في كل هذه المحطات كان الموقف الأمريكي واضحا بالرغم من الغموض الذي أراد البعض رؤيته في مختلف تصريحات الرئيس ترامب. البداية كانت مع الدول العربية والإسلامية التي تجمع بين الثروات الطبيعية، وفي مقدمتها النفط و الغاز واليورانيوم، وتهديدات الإرهاب. وكان موقف دونالد ترامب أن أكد تواصل الحلف الأمريكي السعودي لقيادة المتغيرات المقبلة في المنطقة العربية والإسلامية بالرغم من عدم تجانس القيم و المبادئ التي يقوم عليها نظام الحكم في الغرب وفي السعودية. وقرر «إطلاق أيدي» المحور السعودي المصري لإعادة صياغة التوازنات في جوارهما ، حسب تسريب أحد الدبلوماسيين المشاركين في قمة الرياض. مقابل ذلك رجع دونالد ترامب، الرئيس المقاول، بمئات المليارات من الدولارات كدفعة أولى من أجل تزويد الحلفاء بأحدث الأسلحة و العتاد الحربي مع تذكيرهم بأن أمريكا «لن تأخذ مكانهم للقيام بمسؤولياتهم» في المقاومة المسلحة ضد التنظيمات الإرهابية.
إستراتيجية المقاولة السياسية التي اتبعها دونالد ترامب تضمن تطوير العلاقات التجارية وخفض النفقات الأمريكية مقابل الدعم العسكري والإستراتيجي في إطار المظلة الأمريكية. وهو ما يؤسس مساحة التغيرات المستقبلية تحت الإشراف الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، خلافا لما كانت عليه إستراتيجية باراك أوباما. أولوية أمريكا هي القضاء على داعش. لذلك لم يقم الرئيس الأمريكي بأي تصريح جوهري في النزاع الفلسطيني الإسرائيلي واكتفى بزيارة شبه سياحية لتل أبيب ورام الله. وكان هذا التوجه إنذارا للقوى الأوروبية والدولية التي سوف يلتقي بها فيما بعد في ثلاث مناسبات :مع الإتحاد الأوروبي ومنظمة الحلف الأطلسي ومجموعة السبعة.
أوروبا في التسلل
كان من المفترض، حسب تقاليد العلاقات الأمريكية الأوروبية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أن يعبر الرئيس الأمريكي عن تضامنه مع أوروبا ودعمه لأمنها في إطار منظمة الحلف الأطلسي التي تأسست تحت غطاء أمريكي. لكن الرئيس الأمريكي أظهر في مختلف لقاءاته مع المسؤولين الأوروبيين وجها مشاكسا ، يكاد يكون عدائيا. واتخذ موقف «الرئيس المقاول» مما أزعج الزعماء الأوروبيين وكرس المخاوف التي كانوا يحملونها منذ الحملة الانتخابية للمرشح الجمهوري.ذلك بعد أن انخرطوا في السياسات الأمريكية الأطلسية المعادية لروسيا في عهدي جورج بوش الابن وباراك أوباما. ويجد هكذا زعماء أوروبا أنفسهم في التسلل أمام تقلبات الموقف في البيت الأبيض و«جهل الرئيس الأمريكي ومعاونيه لجل الملفات المطروحة للنقاش» حسب روما وبرلين.
في مختلف النقاشات التي أجراها دونالد ترامب مع زعماء الإتحاد الأوروبي، الرئيس دونالد تاسك ورئيس المفوضية جون كلود يونكر، تم الوقوف على الخلافات الحادة في مسائل اتفاق كوب 21 حول الإحتباس الحراري ومسألة الهجرة واللاجئين والمبادلات الاقتصادية. وعاود دونالد ترامب الكرة بإقدامه على «إعطاء درس» لنظرائه في منظمة الحلف الأطلسي طالبا منهم المساهمة الفعالة في تمويل المنظمة ومتهكما على كلفة المقر الجديد الذي يعتقد أنه شيد من أموال دافعي الضريبة في الولايات المتحدة الأمريكية. ولم ينطق بأي كلمة متعلقة بالدفاع عن أعضاء المنظمة في حالة تعرضوا لهجوم. وهوما فسره الزعماء الأوروبيون بتغيير جوهري في عقيدة الحلف. مما جعل المستشارة أنجيلا ميركل تعلق بعد القمة قائلة: « بطبيعة الحال لا بد أن نبقى أصدقاء مع الولايات المتحدة و بريطانيا، كجيران إن أمكن ذلك، وكذلك مع روسيا. لكن لا بد أن نعلم أنه علينا أن نناضل كأوروبيين من أجل مستقبلنا ومن أجل مصيرنا». واعتبرت المستشارة أن «الزمن الذي كان بالإمكان التعويل فيه على الآخرين قد ولى».
مجموعة 6 ضد 1
بالرغم من الصورة التذكارية التي بثتها القمة للقادة السبعة ثم الصورة النهائية للقادة مع الرؤساء الأفارقة المدعويين ومن بينهم الرئيس الباجي قائد السبسي، فإن الصورة أخفت الانقسامات الحادة بين السبعة الكبار، و في غياب روسيا والصين، في مسائل جوهرية تتعلق بالنظام العالمي، وخاصة مسألة اتفاق باريس حول الطقس والإتفاقات الدولية حول تنظيم التبادل التجاري والمعاهدات المتعلقة بالهجرة و اللجوء. وبان للجميع أن الولايات المتحدة الأمريكية ، تحت رئاسة دونالد ترامب، دخلت في منطق انعزالي لا يهمها سوى شعار «أمريكا أولا». وذهبت المستشارة ميركل إلى القول أن القمة أظهرت مشهد «6 ضد 1» فيما يتعلق باتفاق باريس وأن ترامب أرجأ الإفصاح عن موقفه النهائي للأسبوع المقبل. ذلك الجو العام هيمن على مختلف المسائل المطروحة وحذف من النقاش المسائل المدرجة في الأجندة والمتعلقة بتنمية البلدان الإفريقية التي ترتبط بها مسألة الهجرة. ولم يفلح من بين الرؤساء المدعوين للقمة سوى الرئيس الباجي قائد السبسي في تمرير رسالة تونس دون أن يفضي ذلك إلى وعود أو إجراءات ملموسة.
مثل هذه القمم تبقى مجرد فضاء للحوار و النقاش لكنها لن تفضي ، كما في السابق إلى اتخاذ قرارات. في المقابل هي مناسبة للوقوف على مواقف مختلف القوى العظمى في العالم في مختلف المسائل المطروحة. الموقف الأمريكي «الحازم» مع زعماء «الناطو» أفضى إلى قبول الدول الأعضاء انخراط المنظمة في الحملة ضد الإرهاب. وهو امتداد جديد لمساحات تدخلها سوف يفضي إلى تعقيد الأمور مع روسيا والصين. في المقابل رفض ترامب الانسجام مع الموقف الأوروبي و اختيار انقسام الكتلة الغربية يفتح الباب أمام مناورات فلاديمير بوتن الذي له موعد مع الرئيس الفرنسي في قصر فرساي امس الإثنين. وفي النهاية يصبح مشروع إرساء قوة عسكرية أوروبية موحدة لحماية الدول الأوروبية ومصالحها أمرا عاجلا كما عبر عن ذلك الرئيس الفرنسي والمستشارة الألمانية. وهو ما يحتم إعادة النظر في المشروع الأوروبي.