بين إيمانويل ماكرون ومارين لوبان من مناظرة سياسية إلى حلبة صراع

ذهل الرأي العام الفرنسي بالمستوى الرديء للمناظرة الأخيرة بين إيمانويل مكرون و مارين لوبان قبل موعد الاقتراع المبرمج ليوم الأحد 7 ماي 2017. منذ الخمس دقائق الأولى شنت ممثلة الجبهة الوطنية المتطرفة حملة من الشتائم و الإتهامات ضد منافسها في السباق على قصر الإيليزي

لم يشهد لها مثيل في تاريخ الإنتخابات الفرنسية منذ أن تم تنظيم مثل هذه المناظرات. في حين كان الفرنسيون ينتظرون من المرشحين تفسيرا ضافيا لبرامجهما صدموا بحملة كلامية شرسة تشنها مارين لوبان على إيمانويل مكرون مما جعل هذا الأخير يرد على إتهاماتها و «أكاذيبها» ليبرر موقفه دون أن يتمكن المشاهد من الحصول على التوضيحات العالقة ببعض جوانب برنامج المرشحين. و تحول المشهد، تحت وطأة البلدوزر لوبان، من مناظرة إلى حلبة صراع لم تغب منها سوى اللكمات.
المناظرة الأخيرة في سباق الرئاسية ، و التي شارك فيها لأول مرة ممثل عن اليمين المتطرف، تابعها أكثر من 16 مليون مشاهد. و سبق أن رفض جاك شيراك عام 2002 منازلة جون ماري لوبان في مثل هذه المناظرة. و بالرغم من هذا العدد الذي يعتبر رقما قياسيا فشلت لوبان في الإنتصار على شاب دخل معترك السياسة منذ ثلاث سنوات فقط تمكن خلالها من العمل كمستشار لرئيس الدولة قبل أن يصبح وزيرا ثم أن يكون حزبا جديدا يريده بديلا للأحزاب الجمهورية القائمة . و نجح في ذلك في وصوله للدور الثاني ضد ممثلي الأحزاب التاريخية. وها هو، بعد المناظرة مع المرشحة اليمينية المتطرفة، على مشارف قصر الإيليزي.

مارين في الهجوم
أظهرت مارين لوبان منذ البداية أنها تهاجم مكرون دون أن تعتني بالجمهور أمام شاشات التلفزيون. فعمدت إلى تعداد «مساوئ» المرشح ناسبة اليه كل نواقص «نظام الحكم» في فرنسا منذ ثلاثين سنة: البطالة، فقدان الطاقة الشرائية، الفقر، الهجرة، الإرهاب، إلى آخر المواضيع التي اعتادت الجبهة الوطنية منذ ثمانينات القرن الماضي تقديمها كثوابت في تهجمها عل سياسات الحكومات الفرنسية المتعاقبة. الجديد هنا أنها حاولت أن تلصق هذه الإخفاقات بشخص إيمانويل مكرون بتعلة أنه كان وزيرا في ولاية فرنسوا هولاند. و تمكن مكرون من كسر مفاتيح هذه الإستراتيجية بعد أن صمد أمام هجمات لوبان و تحررك للهجوم على البرنامج السياسي للجبهة الوطنية و نجح، ولو نسبيا، في تعرية نواقصه و إظهار عيوبه خاصة في ما يتعلق بمقترحها تجاه اليورو و أوروبا و كذلك في مسألة نظام التقاعد. و نجح كذلك في تقديم تفسيرات لبعض المسائل في برنامجه المتعلقة بمقترحاته في نظام الضرائب و الحيطة الإجتماعية و التشغيل و إصلاح الإتحاد الأوروبي.

إنقسام حاد حول أوروبا
في كل المواضيع التي تم التعرض لها وقف المشاهدون على اختلافات جوهرية بين المتنافسين تدل على انشقاق عميق لا فقط بين برنامج ماكرون و مواقف لوبان (في غياب برنامج واضح و جدي لها) بل بين شقين من الرأي العام الفرنسي. فموقف لوبان من الإتحاد الأوروبي يشاطره جزء كبير من الفرنسيين و لو أن أغلبيتهـــم (60 %) لا يريدون التخلي عن عملة اليورو. لكن ناخبي 2005 الذين صوتوا ضد الدستور الأوروبي يوافقون على ما طرحته لوبان من مواقف وهو ما يفسر حصولها على نسبة 40 % من نوايا التصويت في آخر استطلاع للرأي قبل المناظرة.

انضمام حركة «فرنسا الواقفة» لنيكولا دوبون إينيان بحملة مارين لوبان و عدم إقرار جزء من مناصري نيكولا سركوزي بدعمهم لمكرون كمرشح جمهوري يظهر أن عمق الخلاف يتجاوز حدود الجبهة الوطنية. و لو أن أسباب عدم انضمام جون لوك ميلونشن بمكرون يرجع إلى النضالات المتكررة ضد قوانينه، عندما كان وزيرا، الرامية إلى تحرير السوق من ضوابطه التقليدية و خفض نفوذ النقابات داخل المؤسسات و تفكيك مجلة الشغل، فإن موقف اليسار الراديكالي لم يتغير بالنسبة للموقف من الإتحاد الأوروبي وهو بذلك يجد نفسه في نفس خانة الجبهة الوطنية بالرغم من مناداته بـ «صد الطريق» أمام مارين لوبان دون النداء صراحة للتصويت لفائدة إيمانويل ماكرون.

أكاذيب وحقائق
مارين لوبان التي قادت فعلا المناظرة في غياب واضح لمديري الحوار، اللذين لم يقدرا على إيقاف السيل الجارف من أقوال مارين لوبان و على التحكم في إدارته، عمدت إلى نشر «الأكاذيب» و الإدعاءات و الإتهامات ضد منافسها منها أنه يمتلك حسابا بنكيا في البهاماس في محاولة للمس من سمعته مما جعل مكرون يرفع قضية ضدها في القلب مباشرة بعد انتهاء المناظرة. و قرر الإدعاء العام فتح تحقيق في الموضوع. ونشرت جريدة لوموند الباريسية في موقعها على الشبكة تقريرا حول «الأكاذيب» التي تفوهت بها مارين لوبان و استخدمتها كوسائل لإقناع المشاهدين بعدم جدوى برنامج إيمانويل مكرون.

و رصدت الجريدة 19 كذبة لمارين لوبان استخدمتها ضد مكرون. وهو ما جعل بعض المحللين يندهشون لموقف زعيمة اليمين المتطرف و يشعرون أنها لم تكن تعمل حقا على الفوز بالسباق بل استغلت الفرصة ، وهي تعلم أن حظوظها في الفوز ضئيلة، من أجل التنكيل بمنافسها و سقطت بذلك في الفخ الذي أرادت استدراج مكرون إليه و أظهرت بذلك وجهها الحقيقي، وجه اليمين المتطرف.

مارين لوبان تشيطن نفسها
أظهر أسلوب مارين لوبان في المناظرة أن «حليمة عادت إلى عادتها القديمة». فباتخاذها موقفا هجوميا، شرسا ، صداميا، اتسم بالتهكم على الخصم و بالضحك من مقترحاته و بالسخرية الكاذبة و بالتنكيل به و بإشاعة الأكاذيب، قامت مارين لوبان بعكس ما عمدت منذ سنتين القيام به من خطوات لتليين سلوكها و تنقية صورتها ممّا شابها من تعجرف و تشنج التصق بصورة أبيها عندما كان يقود الحركة. و قامت بخطوات لتطبيع اليمين المتطرف مغيرة اسم الحزب و ذهبت حتى إلى إقصاء أبيها منه حتى تتمكن من نزع الشيطنة على حزبها و على شخصها. و نجحت في الأشهر الأخيرة في ذلك مما مكنها من التأهل إلى الدور الثاني بعد أن شعر جزء من الرأي العام الفرنسي أن العرض السياسي الذي تقدمه أصبح مغريا .

لكن قيادة الحوار مع إيمانويل مكرون أظهر الوجه الشيطاني الحقيقي لمارين لوبان. و بانت على حقيقتها في ثوبها الحقيقي المفعم بالكراهية للآخر المجسمة في المسلمين و بالتشنج المرضي و الحقد و الكذب. فلم تقدم بذلك دليلا على قدرتها أن تدخل في الثوب الرئاسي. في المقابل، بعد أن صمد مكرون في وجه «العاصفة لوبان» و أظهر قدرة على تحمل الشتائم و السخرية دون الإنزلاق إلى نفس التوجه، قدم بعض التوضيحات العملية ، و لو لم تكن ضافية و شاملة، مكنته من الظهور في صورة الرجل السياسي الواعي بحجم المشاكل و بالغضب الشعبي و القادم على تغيير الوضع الذي يرثه من طبقة سياسية قامت بأخطاء دون إصلاح النظام منذ 30 سنة. وهو ما يمكنه من نيل ثقة أغلبية الناخبين يوم الأحد القادم.

و مباشرة بعد المناظرة تغيرت مواقف بعض الجهات التي كانت محترزة تجاه ماكرون من بينها موقف الجالية التونسية اليسارية التي نادت صراحة بالتصويت لفائدة المرشح الجمهوري. كذلك اجتمع ممثلو الجاليات الإسلامية واليهودية والمسيحية البروتستنتية ونشروا موقفا موحدا دعوا فيه إلى التصويت لفائدة ماكرون. ووقع النداء كل من القس فرنسوا كلافيرولي عن الفدرالية البروتستنتية والحبر الأكبر لفرنسا حايم كورسيا وأنور كبيبش رئيس المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية.

ما يبقى من المناظرة هو الوجه المتعجرف و المتغطرس لمارين لوبان التي تمكنت أن تطغى على حضور ماكرون دون أن تطيح به بالرغم من اللكمات المتتالية والمتعددة التي وجّهتها له. وذكرني ذلك بمقولة المعلق الرياضي المرحوم ابراهيم المحواشي عندما علق مباشرة على فوز الملاكم محمد على كلاي على جورج فورمان بالضربة القاضية في لقائهما بالكونغو :«عيب على محمد علي إسقاط فورمان هكذا. كان عليه أن يتركه يضرب حتى يسقط لحاله». و سقطت عمارة لوبان الواهية من جراء ضربات مارين.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115