والأجندا الأساسية لمن لا يؤمنون بالديمقراطية من التيارات الدينية هي إقامة دولة الخلافة التي تمتد من السواحل الأطلسية للقارة السمراء إلى تخوم بلاد الصين. كما أن بلاد الغرب «الكافر» في نظر بعض هؤلاء هي ملكية مباحة يمكن استهدافها إما للانتقام من خلال عمليات إرهابية، أو بالغزو حين تتمكن «الأمة» من أسباب القوة فتنشر الدين بحد السيف وتغنم وتسبي النساء وحتى الرجال لبيعهم في أسواق النخاسة، وتدمر أسرا وتخلق مآسي بالجملة بإسم الدين، تساعدها في ذلك عقلية البداوة التي تروم التفوق على الآخر وإذلاله وسحقه وانتهاك عرضه إشباعا لعقد ورواسب نفسية ورغبات دفينة أطنب في الحديث عنها علماء النفس والاجتماع.
و تمتلك هذه الجماعات السلاح وهي قادرة فعليا على تدمير أية عملية سياسية، بقطع النظر عن أعدادها وما تمثله من عموم الشعب الليبي، متى شاءت ومتى جاءتها تعليمات من أطراف خارجية تدين لها بالولاء يعرفها القاصي والداني. ولدى هؤلاء قناعة راسخة بأن من حقهم تطبيق أجنداتهم باعتبارهم ساهموا مساهمة فاعلة في الإطاحة بنظام القذافي وكانوا في طليعة ما تسمى بـ»قوى ثورة 17 فبراير».
وقد ظهرت مطالب هؤلاء إلى العلن، مباشرة بعد الإطاحة بنظام القذافي وانطلاق التفكير في إنشاء المؤسسات الجديدة والخوض في المسائل الأساسية المتعلقة بالدستور والدولة المدنية وغيرها. فهي لا ترى أنها قاتلت القذافي من أجل الديمقراطية بل من أجل تطبيق الشريعة والحكم بما أنزل الله، أما الديمقراطية فهي برأيهم صناعة غربية لا تلزمهم بأي حال من الأحوال.
إن امتلاك هذه الجماعات للسلاح وانتشارها على مساحات شاسعة داخل التراب الليبي وسيطرتها على مناطق حيوية، يجعلها قوة يقرأ لها ألف حساب رغم ضآلة أعداد المنضوين تحتها من الليبيين ومن القادمين من دول الجوار على غرار تونس. فحين يلتقي السلاح الخفيف والثقيل مع البداوة ومع الفهم الخاطئ للدين في ثلاثية مرعبة تحصل كارثة حقيقية تجعل من هؤلاء رقما صعبا لا يمكن تجاوزه للسير قدما في عملية البناء الديمقراطي.
كما أن أنصار النظام السابق ممن تطلق عليهم تسمية الأزلام أو الفلول، يمثلون رقما صعبا لا يمكن تجاوزه. وإقناع هؤلاء بأهمية الديمقراطية وإدماجهم في ليبيا الجديدة أمر ضروري حتى يتجنب الليبيون ما حصل في العراق حين تم سن قانون اجتثاث البعث وما تبعه من انتهاكات حولت البعثيين في العراق إلى عناصر تسعى الى عرقلة العملية السياسية، وهو ما أدخل البلاد في حالة من الفوضى إضافة إلى عوامل أخرى.
فلن تستقر ليبيا و لن تبني مؤسساتها دون مصالحة حقيقية مع النظام السابق وإعادة إدماج من يمكن إدماجه من هذه المنظومة في الحياة الساسية. إذ شئنا أم أبينا فإن أبناء هذه المنظومة هم الأدرى بدواليب الدولة و طرق إدارتها وهم الأكثر حرصا على استقلال قرار بلادهم و عزتها و مناعتها و هو ما أثبتته التجربة خلال هذه السنوات التي تلت سقوط نظام القذافي. ومن المؤكد أن هؤلاء سيقومون بمراجعات عديدة ستؤهلهم للإندماج في الحياة السياسية مجددا و للإيمان بالتداول السلمي على السلطة.
كما لن تستقر ليبيا دون معالجة حقيقية لظاهرة الإسلام السياسي، تدمج أيضا من يمكن إدماجه من المنتمين إلى هذه التيارات في الحياة السياسية، خصوصا اولئك الذين عبروا صراحة عن عزمهم الانخراط في أي مسار ديمقراطي مستقبلي حتى وإن كانوا مكرهين بموجب الضرورة التي تبيح المحظور. بالمقابل وجب إقصاء و عزل من يتخذ من العنف وسيلة لتحقيق أهدافه ولا يؤمن أصلا بوجود ليبيا ويعتبرها غلطة أو جزءا من خلافة وهمية تمتد من تخوم الصين إلى غرب إفريقيا. وهي خلافة لم يعرفها التاريخ الإسلامي حتى زمن الأمويين الذين امتد نفوذهم على أراض شاسعة، وكذا الشأن بالنسبة لبني العباس في بغداد و آل عثمان في الأستانة، فلم يشهد التاريخ مثلا أن خضعت أندونيسيا والسينغال إلى دولة واحدة و لا انتمت شعوب البلقان والقوقاز المسلمة ونظيرتها في جنوب شرق آسيا و إفريقيا جنوب الصحراء إلى الفضاء السياسي ذاته بزعامة خليفة تدين له هذه الملل و النحل بالولاء.