وهو أمر راجع إلى هيمنة قيم إيثار النفس وثقافة مراعاة المصالح الفردية وقلّة التعبير عن التعاطف والعزوف عن الانخراط في شبكات التضامن، وهو ما أدّى إلى الاعتراف بوجود 'أزمة رعاية' مجتمعية. وقد اعيد طرح هذا الموضوع بعد بروز الأزمات الاقتصادية التي تمرّ بها كلّ بلدان العالم، وعسر معالجة انهيار الميزانيات وتراجع تصنيف أغلب الدول فكان البحث على مقاربات جديدة لمناهضة كل أشكال الاستغلال الناجمة عن الرأسمالية والنيوليبرالية وإعادة النظر في توزيع الأدوار بين الجنسين التي تنسب رعاية الأطفال وكبارالسن والمرضى إلى النساء فقط فضلا عن التدبر في قيم التآزر والتضامن التي كانت ترسخها العائلة الموسعة ويمارسها الأجوار والأصدقاء ولكنّها أضحت محدودة الحضور في حياتنا اليومية. أمّا على الصعيد التونسي فقد اقتصر الأمر على عرض حلول تتصل بالاقتصاد التضامني، وبعث الشركات الأهلية وغيرها.
غير أنّ المعاين لمعاناة المنسيين في السياسات العامة كالمتسولّين(أطفال، نساء، شيوخ، مهاجرون، معاقون...) وتضاعف أعداد 'البرباشة ' وتنازعهم حول فضاءات العمل والمتابع لصدور أحكام بسبب سرقة رغيف أو علبة تنّ أو غيرها من المواد لا يملك إلاّ أن يتساءل عن دور الجمعيات التي كانت تقوم بأنشطة تصنّف على أنّها رعائية أو خيرية وفق الأيديولوجيا التي يتبنّاها مؤسسو هذه الجمعيات. ولعلّ ما يسترعي الانتباه أنّ الأعمال الخيرية التي تجذّرت في التاريخ الاجتماعي التونسي من خلال ممارسات ومعاملات كالأحباس والهبات وتكفّل بعض العائلات بمصاريف عدد من اليتامى وتقديم خدمات متنوعة للمعوزين سرعان ما أصبحت خلال العقدين الأخيرين، مقترنة في المتخيل الجمعي بالجمعيات الممثّلة "للإسلام السياسي'' ثمّ في مرحلة الانتخابات، ذات صلة ببعض الأحزاب (كحزب ''المقرونة") . ولكن لنا أن نتساءل لِم لَم تظهر مقاومة لتحويل وجهة العمل الخيري ولاحتكاره لفائدة فئة من المجتمع وتسييجه في دائرة النشاط السياسي؟
إنّ فهم التونسيين للعمل الخيري يختلف باختلاف الطبقة والسنّ والجندر والدين والثقافة العامة والتجارب الشخصية والمرجعيات الأيديولوجية وغيرها من المحدّدات. فمن النساء الناشطات في الجمعيات الإسلامية مثلا من يعتبرن أنّ المساعدات لابدّ أن توجّه إلى الفئات التي تعاني من الإعاقة أو الأمراض المزمنة حتى لا تكون الجمعيات داعمة للتواكل والعطالة إذ أنّ الإسلام يحثّ على العمل والسعي والكدّ، ومنهنّ من تذهب إلى أنّ 'الإعانات' لا تقدّم للأمّهات العازبات أو غير الملتزمات شرعيا ...وعلى هذا الأساس يعدّ المعيار الأخلاقي أو الديني أو المذهبي مهمّا بالنسبة إلى فرز المجموعة المنتفعة بالدعم المالي. وفي المقابل تشير بعض شهادات المُعينات المنزليات إلى أنّ عددا من المُشغّلات يُلقين ببقايا الطعام أو الملابس في المزابل ويرفضن انتفاع النساء به مع علمهن بظروفهن القاسية لأنّهن يعتبرن ببساطة، أنّ دفع الأجرة يُخرج المعينة المنزلية من العوز وأنّه لا يجب تشجعيها على "الطمع''. ولا يختلف الأمر بالنسبة إلى فهم التونسيين لأدوار الرعاية إذ يعتقد أنّها من مسؤولية النساء وذات بعد عائلي، أي أنّها مرتبطة بالفضاء الداخلي، وهو فهم عملت الأنظمة الرأسمالية على ترسيخه بالفصل بين الإنتاج وإعادة الإنتاج من جهة، والمادي والرعائي من جهة أخرى..
وسواء تحدثنا عن المبادرات الخيرية الاجتماعية المرتبطة بالقناعات الدينية والروحنة أو عن الأنشطة الرعائية الموجهة إلى الفئات المنسية والمهمشة فإنّ السياق الحالي يستدعي تشجيع العمل الرعائي التطوعي الذي يبرز المسؤولية المواطنية التي تتأسس على قاعدة الحسّ الإنساني وخارج المحددات التقليدية(الدين، بنى القرابة، الجهويات...) ، وهي علامة على التحضّر والتماسك الاجتماعي في أزمنة العسر.