قالت كليلة: "إنها نكتة عن رجلين، فرنسي وبلجيكي. كانا يشاهدان أخبار الثامنة حين ظهر على الشاشة مجنون يهدد بإلقاء نفسه من الطابق العشرين. قال البلجيكي: "أنا متأكّد أنه لن يفعلها." قال الفرنسي: "بل سيفعل." أصرّ البلجيكي على المراهنة. وافق الفرنسي في سخرية. وبطبيعة الحال، ألقى المجنون نفسه. قال البلجيكي: "لقد ربحتني." قال الفرنسي ضاحكا: "لا عليك. لقد كنت أمازحك فقط. بصراحة، كنت قد شاهدت أخبار المساء. لذا كنت أعلم أن الرجل قد ألقى بنفسه بالفعل." قال البلجيكي: "أنا أيضا شاهدت أخبار المساء." استغرب الفرنسي، فسأل: "لقد كنت تعلم! لماذا راهنت على أنه لن يلقي . . ." قاطعه البلجيكي مستاء: "لم أكن أعتقد أن هذا الأحمق سيلقي بنفسه مرّة ثانية بعد ما حصل له في المرّة الأولى."
ضحكت دمنة، وقالت: "لا شكّ أنّ صديقنا البلجيكي كان سيكون أكثر حذرا في رهانه لو أنه علم أن المجنون كان من إيرادستان." تعجّتت كليلة، فسألت: "لماذا تقولين ذلك يا دمنة؟" قالت دمنة: "أقوله لأنني لا أعرف نظيرا لأهل إيرادستان، حتى العقلاء منهم، في الإلقاء بأنفسهم إلى التهلكة كلّما سمحت الفرصة بذلك." قالت كليلة: "حدثيني عن ذلك يا دمنة."
فكرت دمنة هنيهة ثم تنهدت، وقالت: "إن في إيرادستان ضيعة كبيرة، فيها خرفان سود وخرفان بيض. في يوم من الأيّام تشاجر خروفان، أحدهما أبيض والآخر أسود. يقال أنهما اختلفا حول أنثى أرادها كل منهما لنفسه. ولكن أرجح الروايات تقول أنهما اختلفا حول من يملك أكبر عضو تناسلي. وما حكاية الأنثى إلا لرفع الحرج. المهم أنهما اختلفا، ثم ما لبثا أن تناطحا. فسمعت بنطاحهما باقي الخرفان. فهبّ أغلبها لتنتصر لأبناء جلدتها. اندلع النطح كما تندلع الحروب. جرح البعض ومات خروفان. في تلك الليلة اجتمعت بعض من كباش الضيعة وأعلنت السلام. لكّن صغار الخرفان باتت تشحذ قرونها وتطلب الدماء ثأرا، وتنشد الحرب غاية، وتتخذ الدمار وسيلة. في الصباح استمرت الحرب، ولكنّ نفور الأكباش منها ونهيهم عنها أضعف وتيرتها. عندها قام أحد الخرفان يصيح: "لعن الله هذه الضيعة وكباشها وخرفانها. أقسم أن أدلّ الذئب عليكم أيّها الأغنام. فهذه الأرض إما أن تكون لي ولعشيرتي أو أنها لن تكون لأصحاب الأعضاء التناسلية الصغيرة."
سكتت دمنة قليلا، ثم أردفت: "شعر الكثير من الخرفان بالصدمة لفكرة استدعاء عدوّ تعرفه. إذ كان قد روّعها سنينا، وسفك دماءها أعواما. ولم يتسلم منه إلا بعد أن اكتشفت ضيعتها التي تعصمها من الجبروت. رغم تلك الصدمة، استجاب بعضهم لدعوة الفتنة. فبدأوا يحدّثون أن أنياب الذئب أرحم من رؤية وجوه خرفان لا تشبهها. ربّما كان أكثرها يقولها لمجرّد الكلام. ولكنّ الفتنة تبدأ بكلمة. وأصل كلّ فتنة سباب. لقد تصاعدت الأحقاد، ولم يعد أحد يذكر أسبابها. هي فقط أحقاد يستخدمها كل رأس غنم كي يعرّف بنفسه أو ينفخ صدره أو يعرض قرونه أو يفتخر بأليته. وبقيت فكرة الذئب تعود من حين إلى آخر، لكن في همس و دون صخب."
سكتت دمنة واخذت تسترجع أنفاسها، ثم واصلت: "استمرّت الحرب بين الخرفان باردة. ولكن في يوم من الأيام، تشاجر خروفان مرّة أخرى. وكان أحدهما ضعيفا، ولكنه كان طويل اللسان. فهجم عليه الآخر في غضب وحنق، فنطحه نطحة كسرت قرنيه وأردته مغمى عليه. حين استيقظ من غيبوبته، لم يعد الخروف الجريح إلى أهله. فقد أحسّ بهوان كان يعلم أنهم لا يقدرو عليه. لقد قررّ أنّ قطرات الدماء التي سالت منه لا تعوّضها إلا بحار من دماء. وتلك غاية تحتاج إلى أنياب لا إلى قرون. لقد توجّه ذاك الجريح إلى الغاب باحثا عن أحد الذئاب. وما إن اعترضه أحدها حتى همّ الوحش بالتهامه. ولكنه صاح به: "ويحك أيّها الذئب! أتأكلني وأنا المستجير بأنيابك." سأل الذئب متعجّبا: "وما حاجتك لأنيابي؟" أجاب الخروف: "أحتاجها لفرض التوازن السياسي في ضيعة قهرنا فيها خصومنا من الخرفان. اسمع أيّها الذئب، خلّ سبيلي وأنا أدلّك على ضيعة فيها غنم كثير." ازداد الذئب عجبا، فسأل: "هل تقصد خداعي؟ منذ متى أصبحت الخرفان تبيع بعضها للذئاب؟" قال الخروف: "صرنا نبيع بعضنا للذئاب منذ أن أصبحت القرون أغلى من النفوس، وأضحت الجلود أثمن من القلوب، وأمست ألوان الصوف بيضها وسودها أشدّ وقعا من حمرة الدماء." قال الذئب: "وأين هذه الضيعة، وكيف السبيل إليها؟ واحذر أن تخادعني، فتكون نهايتك ونهاية عشيرتك." قال الخروف: "أدلّك عليها إذا أعطيتني الأمان. ولو سمحت سيادتك ببعض الضمانات أن لا تمسّني وعشيرتي بسوء، فذاك كرم منك." قهقه الذئب ضاحكا، وقال ساخرا ومخادعا: "ألم يكن جهلي بمكان ضيعتكم خير ضمان لكم؟ ولكن حسنا! أضمن أن أكتفي بخصومك وأن لا أفتك بعشيرتك."
سكتت دمنة مرّة أخرى، ثم قالت متوجّهة بالكلام إلى صديقتها: "لا شكّ يا كليلة أنك قد فهمت ما بقي من قصّتي. فقد أقبل الذئب وبدأ يأكل الأغنام، لا يميّز بين أبيض ولا أسود ولا كبش ولا خروف. وحين ذكّره الواشي بوعده أجابه وهو يهجم عليه مفترسا إياه: "إن الوعود لا تلزم إلا سامعيها. فإما أن يكون المستفيد من الوعد قويا، فينتزع بقوته الوفاء من صاحب الوعد، وإما أن يكون ضعيفا، فلا يفيده الوعد، إلا أن يكتشف غباءه فيزيد في حسرته. ولو أنّك أيّها الخروف ذو اللسان الطويل صبرت على كسر قرنك، لما خسرت ضيعتك وعشيرتك ونفسك."
قالت كليلة: "إنها قصّة رائقة ذات عبرة واضحة. ولكنّي بصراحة لم أفهم علاقتها بموضوعنا يا دمنة. لقد حدثتني عن الذئب والخرفان إذ سألتك عن أنباء إيرادستان. لقد كنت أحسب أن سكّانها من بني البشر." أجابت دمنة مبتسمة: "طبعا إنهم من بني البشر. ولكنّهم من فرط بحثهم عن راع يرعاهم وعصا تهشّ عليهم، أصبح الواحد منهم لا يكاد يطمح الى أكثر من أن يكون خروفا في قطيع." سألت كليلة: "وهل ترعى الذئاب القطعان؟" أجابت دمنة: "تلك ميزة إيرادستان. فالأحقاد فيها تعمي البصائر. لقد كانت كل مجموعة فيها تحلم بذئب لا يأكل إلا خصومها. ولعلّ ذئبا أراد فعلا أن يكتفي بفئة دون غيرها. ولكنّ طبع الأنياب أنها لا تبصر الألوان. فهنيئا للذئب، وطوبى للأنياب." قالت كليلة: "ورحم الله إيرادستان." قالت دمنة: "رحم الله إيرادستان."