والذي تتكتم عليه وترفض حتى تقديم الفرضيات التي سيبنى عليها القانون، تركت الجميع ينتظر دون صدور القانون ليناقشوا تاثيراته وتداعياته على الافراد والمؤسست والدولة ذاتها.
عادة التكتم التي باتت تنتهجها السلطات التنفيذية ان تعلق الامر بقضايا تهم التونسيين كقانون المالية قد تحول دون معرفة بدقائق المشروع الذي يبدو انه استكمل على الاقل مرحلة التحكيم وبات في اشواطه الاخيرة ولكنها لن تخفي السياسات والخيارات الكبرى التي تنتهجها الحكومة وسيكشفها القانون عند عرضه للعموم اذ باتت هناك اليوم قدرة على فهم «عقل» راسم قانون المالية وضابط الموازنات المالية، اذ قدمت لنا حكومة بودن الى غاية اليوم ثلاثة قوانين مالية خلال عهدتها التي بالكاد تجاوزت 14 شهرا، صاغت فيها قانون مالية 2022 وقانوني مالية تعدلي 2021و2022.
في النصوص الثلاث قدمت الحكومة وان بعذر خضوعها للاكراهات مقاربتها العامة في وضع قوانين المالية وفي تسيير الشؤون المالية والاقتصادية للبلاد التونسية، وكشفت انها جهاز مالي اداري اكثر منها راسمة لخطط والاستراتيجيات التي يفترض ان تكون قوانين المالية احد عناصر التعبير عنها ادواتها.
ففي القوانين الثلاثة التي صاغتها الحكومة وصدرت كمراسيم رئاسية تتضح بشكل جلي اولويات السلطة وهي الوصول الى توازن في المالية العمومية لا بهدف توفير اليات واودات مالية واقتصادية بيدها لدفع النمو واستحداثه بل فقط لتحقيق التوازن وضمان سلامة جداولها حتى وان ادى الامر الى اسقاط كل بنى الدولة ومؤسساتها.
فما كشفته القوانين الثلاثة وبعض من تصريحات الوزراء الماسكين بملف الاقتصاد والمالية اضافة الى بعض من الاوامر والمراسيم، ان عقل الحكومة هو «عقل جاب» همه الاول هو رفع مداخيل الدولة عبر ابسط وأيسر الية وهي فرض ضرائب جديدة وان كانت حجتها في ذلك هو تحقيق الاصلاحات الجبائية وضمان العدالة إلا ان فعلها مناقض لقولها، فهي اليوم تتجه الى ترفيع نسب الضرائب على المؤسسات الناشطة في القطاع المنظم اكثر من توجهها الى ادماج نصف الاقتصاد القابع في «الظل» وبعيدا عن اعين الدولة. وفي هذا الصدد يكفي النظر الى القطاعات التي الحقتها الحكومة بنظام الضريبة على الدخل وما اعدته لمراقبة حجم معاملات الناشطين في هذه القطاعات.
عقل الجابي قد يكون في تحسين مداخيل الدولة الجبائية وهذا ما كشفه قانون المالية التعدليل لسنة 2022 الذي شهد ارتفاعا بـ1 مليار دينار عما كان عليه في الفرضية الاولى ولكنه يكشف عن ان الحكومة تتجه الى ان تجعل من قانون مالية 2023 المنتظر قانون «جباية» يبحث عن تحقيق توازنات مالية للدولة ومعالجة تعثر تعبيئة موارد اضافية بفرض ضرائب وطوابع جبائية جديدة توفر عائدات مالية تساعد على تغطية النقص، لكنها لا تدفع بحركية الاقتصاد ولا تخلق الثروة.
فرض ضرائب جديدة على المؤسسات والنشطين الاقتصاديين لتعبئة موارد مالية اضافية وتوسيع قاعدة المشمولين بنظام الضرائب الحقيقي يبدو ان الدافع اليه بالاساس هو تنفيذ جزء من بنود الاتفاق مع صندوق النقد الدولي والاهم تعويض النقص الناجم او المنتظر عن تعثر عملية تعبيئة موارد مالية غير جبائية من بينها القروض الخارجية التي كشف تقرير انجاز ميزانية 2022 وقانون مالية تكميلي انه لا يمضى كما خططت الحكومة.
هنا يتضح لنا اننا امام قانون سيبحث عن تقليص الحاجة الى الاقتراض الخارجي مقابل الترفيع من مداخيل الدولة الجبائية والمراهنة على بعض الموارد الاضافية التي ستتأتى من عمليات التفويت في مساهمة الدولة في منشات مالية او مؤسسات اقتصادية وصناعية.
الرفع من عائدات الدولة والمراهنة على ان يكون الاتفاق مع صندوق النقد الدولي بوابة للتوجه الى المؤسسات المالية الدولية للاقتراض يقترن ايضا بانتهاج الحكومة لسياسات تقشفية تقتضى التخفيض من حجم انفاقها الاجتماعي اي من نفقات الدعم على المواد والسلع الاساسية.
وهذا انطلق مع القرار الصادر هذا الاسبوع بالترفيع في نسبة الزيادة المعتمدة في الية تعديل اسعار المحروقات لتكون 7 % وبداية تطبيقه في الزيادة الاخيرة للاسعار مع التوجه للابقاء علي هذه النسبة للسنة القادمة بهدف تحقيق تعهد تحرير اسعار الوقود مع نهاية سنة 2023.
تحرير سعر المحروقات هو خطوة في مسار اعادة هيكلة نفقات الدعم الذي تمضى فيه حكومة نجلاء بودن والذي يتضمن ايضا رفعا تدريجا للدعم على المواد الاساسية وهو ما يعنى ان قانون مالية 2023 سيشهد تقليص في نفقات الدعم. وتقليص نفقات الدولة يبدو انه سيشمل نفقات التاجير وذلك بتجميد الانتداب في الوظيفة العمومية والقطاع العام.
هنا تتضح لنا معالم قانون مالية 2023 وهي ارتفاع عائدات الدولة الجبائية وتراجع حاجتها للاقتراض الخارجي مع ملامح واضحة لسياسة تقشفية تهدف الى ضبط الموازنات المالية مما يعنى اننا امام احتمالية مرتفعة بان تتراجع ايضا نفقات الاستثمار العمومي وهو ما يعنى ان نسب النمو المتوقعة ستكون في افضل حالة بين 2 و3 % وهي نسب لا تحقق التنمية ولا تحدث مواطن شغل.
وبهذا نكون امام قانون مالية هدفه الاول والاخير اعادة التوازن لمالية الدولة وخزائنها لا خلق حركية اقتصادية تنتج ثروة تسمح بان نغادر مربع الازمة الدائم، قانون مالية يكرر ذات السياسات القديمة التي تغفل عن ان الثروة لا تنتجها الجباية ولا التقشف بل الاستثمار والتشجيع على الاستهلاك وهذا سيكون الغائب الابرز في قانون ماليتنا القادم.