كشفت عن تقسيم المهام والأدوار بين الرئاسة والحكومة.
فقد تخلى الرئيس منذ جوان الفارط عن خيار عقد مجلس الوزراء بشكل دوري ومنتظم بقصر قرطاج. ففي الفترة الممتدة لـ5 اشهر لم يشرف الرئيس إلا على مجلسين. الاول كان في 1 جوان 2022 والثاني كان منذ 15 سبتمبر الفارط. وتعلق كلاهما بتعديل قانون الانتخابات والاستفتاء.
تعديلات تمت مناقشتها في مجلسين للوزراء الاول القى فيه الرئيس كلمة تجاوزت مدتها 19 دقيقة والثاني رسخ المقاربة الاتصالية الجديدة للرئاسة القائمة على نشر بلاغات عوضا عن نشر تسجيل فيديو لخطابات او كلمات الرئيس افتتاحية.
فالرئيس ومنذ ان تقلد منصبه جعل من «خطاباته» وكلماته التي تسجل وتنشر عبر صفحة الرئاسة بشبكة التواصل الاجتماعي وسيلته لمخاطبة الجميع ونشر رسائل سياسية للداخل والخارج للأنصار والخصوم وباتت منذ اكتوبر 2021 خطابات تلقى بحضور كامل الفريق الحكومي. ليقع التخلي عن هذه الطريقة في جوان الفارط.
منذ ذلك التاريخ عدلت رئاسة الجمهورية في سياساتها الاتصالية التي تزامنت مع تخلى الرئيس تدريجيا عن ترؤس مجلس الوزراء وفسح المجال لرئيسة الحكومة نجلاء بودن لإدارة ملفات حكومتها التقنية واليومية المعيشية عبر المجلس الوزاري ولم يعد للاشراف على المجلس الا حينما وضعت مسالة تعديل القانون الانتخابي تمهيدا للانتخابات التشريعية وهو ما كشف بشكل جلي وصريح عن تصور الرئيس للدور الذي «يوكله» لحكومته، فهو وبشكل مباشر وواضح يلقي بكل مسؤوليات ادارة الشأن اليومي للحكومة ويجعل من ادارة الملفات اليومية والتقنية مهمتها ودورها الأساسي اما هو فيجسد تقسيم الصلاحيات والأدوار سواء في الامر الرئاسي عدد 117 او في الدستور الجديد. القائم على ان الرئيس هو الراسم للسياسات العمومية والمحدد لها.
ففي مقاربة الرئيس، السلطة بيده هو اما الحكومة فهي جهاز تنفيذي وجسم اداري مهمته ودوره هو تطبيق السياسات وتنفيذ الخيارات التي يكلف بها. وهذه المقاربة وجدت طريقا لتعبر عن نفسها بعد ان عدلت السياسة الاتصالية للرئاسة.
سياسة تهدف الى ترسيخ صورة اساسية مفادها ان الفعل السياسي حكر على الرئيس. وهو ما يعاد تجسيده عبر اليات اللقاءات بين الرئيس وأعضاء من الحكومة. والتي تنتهى عادة بإصدار بلاغ مقتضب يحمل الرسالة السياسية التي يريد الرئيس ان توجه.
مثال ذلك سلسلة اللقاءات التي عقدها الرئيس في بداية الاسبوع الجاري. اذ التقي بجملة من الوزارء ابرزهم وزير الداخلية ووزير الصحة ووزير املاك الدولة والشؤون العقارية ووزيرة الثقافة.
هذه اللقاءات التي تتابعت انتهت كلها بنشر بلاغات تضمنت اهم ما تطرق اليه الرئيس. ففي اللقاء مع وزير الداخلية تطرق الى نقطتين بالأساس، الاولى وجود مندسين وانتهازيين في قائمة المترشحين للانتخابات التشريعية، والثانية هي انشطة المعارضين له وتحركاتهم في نهاية الاسبوع الفارط والى دحض الاتهامات التي توجه اليه بالتضييق على الحريات.
في لقائه الثاني مع وزير الصحة تحدث الرئيس ايضا عن ملفين اساسيين الاول مرسوم لإحداث وكالة وطنية للأدوية والثاني حول أسباب تعطل بناء مستشفى القيروان وضرورة تحميل المسؤولية لكلّ الأطراف التي أدّت إلى ذلك.
في اللقاء الثالث مع وزير املاك الدولة تحدث الرئيس عن التاريخ وعن التلاعب بمنح الاراضي وعن التفريط في ملك الدولة و عن الإهمال والتقصير قبل ان يثير موضوع إنشاء الشركات الأهلية والصعوبات التي يجدها من يرغب في بعث هذا الصنف من الشركات وكيفية تجاوز الامر.
لقاءات كشفت عن اولويات الرئيس والقضايا التي تشغله، فهو وفي اطار توزيع للأدوار والمهام رحل جل ملفات ادارة الشأن العام المتعلقة بحياة التونسيين اليومية الى الحكومة و رسخ دورها كإدارة تطبق سياساته وخياراته وجعل منها جدارا يدعمه ويتلقى عنه النقد ويتحمل مسؤولية الاخفاق. اما هو فيمسك بالملف السياسي الذي يختزل في تحقيق مشروعه واسترجاع سيادة الشعب.
خيار يرسخ تدريجيا صورة ذهنية مفادها ان الحكم والسلطة بيد الرئيس وان الحكومة هي مجرد جهاز تنفيذي، وهو ما من شانه ان يعود بالسلب على الرئيس نفسه خاصة في السنة القادمة التي ستشهد انطلاق تطبيق خطة الاصلاحات الاقتصادية الموجعة.
فالرئيس وبعد ان رسخ حقيقة ان الحكومة مجرد اداة تنفيذ سيكون من الصعب عليه ان يحملها تداعيات السياسات الاصلاحية القادمة.