أزماتنا الاقتصادية والاجتماعية مرتبطة بقرار سياسي وأن هذا القرار بمثابة كلمة السرّ التي ستفتح أمامنا خزائن الدنيا .
قلنا في الحلقة السابقة أن هنالك إجماعاواسعا في البلاد لدى النخب بمختلف توجهاتها واختياراتها على ضرورة «تغيير منوال التنمية» لكن هذا الإجماع الظاهري يخفي اختلافات جوهرية يمكن تصنيفها ضمن ثلاثة توجهات كبرى:
1 - الإيديولوجي
الرأي الغالب عند النخب التونسية أن تغيير المنوال التنموي لا يمكن أن يحصل دون تغيير ما يسميه ماركس بعلاقات الإنتاج أي دون تغيير جذري في الاختيارات الاجتماعية الكبرى: من يملك وسائل إنتاج الثروة؟ وكيف توزع نتائج هذه الثروة .
بعبارة أوضح، قلّ وندر أن يتم الإفصاح عنها اليوم بمثل هذا الوضوح،لتغيير منوال التنمية ينبغي الخروج الكلي أو الجزئي من قواعد اقتصاد السوق أي من علاقات الإنتاج الرأسمالية ومن كل أشكال الهيمنة التي تؤسس لها العولمة.
هنا نجد طيفا واسعا ينطلق من الاشتراكي الذي يؤمن بأولوية الدولة على القطاع الخاص وبضرورة تحكمها - لا فقط - في الخدمات العمومية بل وكذلك في الإنتاج وفي التسويق..وصولا الى من يرفض اقتصاد السوق والعولمة كليا دون يكون البديل واضحا بمثل وضوح رفض السائد.
2 - الاقتصادوي
هنالك موقف ثان لا نجد له،في العلن،أنصارا كثيرين إلا أن له تأثيرا خاصة على دوائر القرار السياسي والاقتصادي كذلك في أوساط الاقتصاديين ومفاده أن الدولة فاعل اقتصادي سيء فهي لا تتقن الإنتاج ولا تحسن التصرف الرشيد، لذا كان لزاما على الدولة التمركز حول مهامها السيادية وحول الخدمات العمومية الأساسية وأن تخلق مناخا مفتوحا وشفافا للاستثمار وهذا ما سيخلق القيمة المضافة ومواطن الشغل مما سيسمح بالابتكار والارتفاع بسلم القيم وهذا ما سيسمح بنمو قوي للاقتصاد وهو الشرط الضروري للازدهار الاجتماعي.
3 - الاقتصادي الاجتماعي
التيار الثالث الذي يتقاسم التأثير في النخب ليس واضح المعالم والهوية كما هو الشأن بالنسبة للتيارين الأول والثاني،لكنه ينطلق من مشتركات أهمها أن المنوال التنموي الحالي قد استنفد كل أغراضه وأن المنوال الجديد يكون ضمن اقتصاد لا يقتصر على القدرة التوزيعية للدولة بل في ابتكار الحلول العملية حتى تكون التنمية مدمجة لكل الجهات والفئات وأن تكون للجهات والفئات الأكثر فقرا وتهميشا فرص جديدة للنمو وللابتكار وخلق الثروة وان هذا كله يستوجب خلق شروط التمييز والتفوق المدرسي والمهني لكل بنات وأبناء تونس .. فالمزاوجة هنا بين الاقتصادي والاجتماعي تريد القطع مع المعالجات «الخيرية» لقضايا الفقر والتهميش لا فقط عبر آليات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني ولكن أيضا عبر خلق ديناميكيات تنموية في الهوامش تجعل منها مراكز للغد.
كما أسلفنا هذا تأطير واسع لتيار بصدد التنامي داخل النخب توجد فيه دون شك اختلافات هامة لكنه لم يتوصل إلى حد الآن الى فرض أطروحاته ومحورة النقاش العام حولها ..
كما ترون الإجماع الظاهر حول ضرورة تغيير المنوال التنموي يخفي وراءه اختلافات بل وتناقضات جوهرية في الرؤية والتشخيص وطرح البديل .
ولعل من مشاكل تونس اليوم هيمنة التصور الإيديولوجي العقائدي على جزء هام من نخب البلاد تحت عناوين ويافطات عدة دون أن تعرض على طاولة النقد الجدي ودون أن يحصل نقاش عميق حولها يبيّن حدودها وتهافت العديد من أطروحاتها، ولكن الإيديولوجيا ليست حكر على أنصار التيار الأول بل نجد أيضا في التيار الثاني ما يمكن أن نسميه بالليبراليين العقائديين الذين لا يخضعون كل مسلماتهم الى النقد العقلاني.
لا يمكن لبلد أن يطمح إلى تغيير منوال تنميته أو تجديده دون رؤية إستراتيجية تسنده وتوجهه أو لسلطة تدعي بالعلم معرفة وتخطط في أروقتها بعيدا عن الفضاء العام والنقاش المجتمعي المفتوح .
لاشك أن في حالات عديدة يسبق الواقع المفهوم (le réel précède concept) ولكننا في هذا المجال بحاجة الى مفهوم حتى نتمكن من إرساء قواعد الواقع الجديد .
(يتبع)
• الحلقة الثالثة والأخيرة :
سبل الارتقاء في سلم القيم
في تغيير منوال التنمية II-حتى نخرج من سجن الإيديولوجيا
- بقلم زياد كريشان
- 10:09 03/11/2022
- 1553 عدد المشاهدات
لشعار «تغيير منوال التنمية» جاذبية خاصة في تونس ما بعد الثورة وحتى ما قبلها إذ يوحي،لدى الكثيرين بأن كل