في تغيير منوال التنمية I- مقدمات أساسية

منذ الثورة إلى حدّ اليوم (بل وقبل الثورة بسنوات عديدة كذلك) دعت كل النخب السياسية (الحاكمة والمعارضة) والفكرية والحقوقية والنقابية والجمعياتية

إلى ضرورة تغيير منوال التنمية وانه لا حلّ ولا رفاه لعموم التونسيين دون تغيير المنوال التنموي القائم ..
ولكن كجلّ الأشياء التي يبدو حول تسميتها إجماع واسع نجد أن هذا المفهوم «تغيير منوال التنمية» يخفي وراءه مطالب مختلفة بل ومتناقضة، علاوة على أن ما نعتبره المنوال الحالي للتنمية لم يحصل بعد إجماع على توصيفه أو على رصد مواطن الوهن فيه .
سنسعى في هذه السلة القصيرة من الافتتاحيات إلى الوقوف على اللامقول (le non dit) في هذه المقولة وعلى كشف ما يخفيه هذا الإجماع الزائف مع سعي إلى تقديم بعض الأفكار حول طبيعة ومضمون منوال تنموي جديد وحول أهم متطلباته العملية.
• هل يوجد لدينا منوال تنموي ؟
لاشك أن لكل اقتصاد منوال تنموي، ولكن سؤالنا انكاري بمعنى هل أنه لدينا منوال تنموي تم التفكير والتخطيط له بصفة مسبقة أم أن لدينا سياسات تنموية متراكمة نجم عنها منوال تنموي هجين زاده ضعف السياسات العمومية على امتداد العقدين الأخيرين اضطرابا؟
يمكن أن نقول بصفة إجمالية أن تونس شهدت على امتداد تاريخها المعاصر لحظتين أساسيتين يمكن أن نقول عنهما أنهما شهدتا تخطيطا لمنوال تنموي ذي ملامح واضحة ونقصد هنا فترة الستينات مع احمد بن صالح والسبعينات مع الهادي نويرة ورغم كل ما يقال عن الفروقات الجوهرية بين تجربة التعاضد المسماة بالاشتراكية الدستورية والتجربة التي توصف بالليبرالية للهادي نويرة إلا أنه توجد خيوط ناظمة وجامعة لهذين العقدين من تاريخ البلاد واللذين تميزا بسياسات عمومية فُكّر فيها وتم التخطيط لها .
الخيط الناظم الأساسي هو الدور الاستراتيجي الذي لعبته الدولة في العملية التنموية بصفة مباشرة في الستينات عبر خلق مؤسسات عمومية أريد لها أن تكون قاطرات للإنتاج وللقطاعات الصناعية والفلاحية والخدماتية التي اشتغلت عليها دولة الاستقلال ..فالأساسي في المنوال التنموي للستينات لم يكن التعاضديات الفلاحية والخدماتية رغم انه كان عنوانها الأبرز،بل خلق نسيج اقتصادي عبر المؤسسات العمومية الكبرى للدولة كالفولاذ والسكر والحلفاء والسياحة والفسفاط والأسمدة الكيمائية ..
وكانت الفكرة الأساسية في تنويع النشاط الاقتصادي خلق نسيج متوازن بقيادة الدولة وبمساهمة تتسارع تدريجيا للقطاع الخاص مع العمل على إصلاح هام لكل المنظومات الاجتماعية الكبرى بدءا بالأسرة (مجلة الأحوال الشخصية) حتى تتحرر المرأة لا فقط كمواطن بل وأيضا كفاعل اقتصادي ،ثم التعليم بتعصيره وتعميمه كذلك الصحة والبنية الأساسية ..
في السبعينات - والتي توصف عادة بأنها فترة السياسية الليبرالية - واصلت الدولة لعب دور استراتيجي في التنمية عبر آليتين اثنتين رئيسيتين: فتح باب الاستثمار الخارجي على مصراعيه (قانون 1972) من خلال فكرة جديدة كانت الدولة التونسية أول من اهتدى إليها في العالم وهي اعتبار أن البلاد التونسية بأكملها منطقة حرّة يتمتع فيها المستثمر الأجنبي بامتيازات جبائية كبيرة مقابل تشغيل اليد العاملة التونسية كذلك الإطارات التونسية إذ لم يكن يسمح للشركات الأجنبية بتوظيف أكثر من أربعة إطارات أجنبية على الأقصى ..
أما الآلية الثانية فهي خلق طبقة جديدة من رجال الأعمال عبر جملة من البرامج والتحفيزات مما سمح للآلاف من الإطارات الإدارية أو البنكية من الانتصاب للحساب الخاص وخلق مؤسسات كبرى ووسطى وصغرى مازالت تشكل إلى حدّ
اليوم نواة أساسية في النسيج الاقتصادي التونسي.
كما اعتمدت فترة السبعينات على المقاربة التالية لجلب المستثمرين الأجانب وتمكين الصناعيين التونسيين من قدرة تنافسية في التصدير وهي اليد العاملة ذات المستوى الجيّد مع أجور زهيدة مقارنة باليد العاملة الأجنبية ،مقابل هذا تتعهد الدولة بالمحافظة على مستوى منخفض لأسعار المواد الأساسية عبر صندوق الدعم .
ويمكن أن نقول أن تونس افتقدت لأفكار تنموية جديدة منذ نهاية عهد المغفور له الهادي نويرة وأن العقود الثلاثة التي تلت كانت عقود تصرف لا عقود تخطيط بدءا بالسياسات الاستعراضية في الثمانينات والتي أدت إلى أزمة خانقة سنة 1986 اضطرت فيها البلاد إلى الدخول في برنامج إصلاح هيكلي كما أن فترة حكم بن علي كانت قد تميزت بالتصرف الحذر في التوازنات الكبرى للمالية العمومية والسعي إلى تحقيق نسب معقولة من النمو دون التفطن إلى ضرورة القيام بالإصلاحات الضرورية للارتقاء التدريجي في سلم القيم ..
إذن تعيش البلاد منذ أربعة عقود على أفكار الآباء المؤسسين للدولة الوطنية دون أن يعني ذلك ركود الحياة الاقتصادية اذ سجلت قطاعات هامة (كالصناعات الميكانيكية والكهربائية) تطورا نوعيا وكميا مرموقا بفضل جودة الكفاءات في التسيير وفي الإنتاج ورأينا كيف تمكنت مؤسسات تونسية عدة من اقتحام أسواق جديدة ومن منافسة جدية على مستوى عالمي في بعض مستويات الإنتاج .
نعود إلى السؤال الأول : كيف نوصف المنوال التنموي الحالي ؟ إن الاكتفاء ببعض الشعارات الهامة كاقتصاد المناولة أو اقتصاد الريع أو الاقتصاد التابع لا تسمح لنا مطلقا بفهم عميق لطبيعة الاقتصاد التونسي ونسيجه المعقد .. لدينا منوال الأمر الواقع الذي فيه إخفاقات عديدة ونجاحات أيضا ..فيه القيمة المضافة المتدنية وفيه الاجتهاد والتجديد والقيمة المضافة العليا . ..منوال مازال يمتزج فيه الاقتصادي بالاجتماعي إلا انه تكاثرت فيه الحلول الترقيعية والجزئية على امتداد أربعة عقود .
الفارق الأساسي بين عشريتي الستينات والسبعينات وبين العقود الأربعة التي تلتها وخاصة هذا العقد الأخير هو الغياب المتصاعد للفكر الاستراتيجي للدولة التونسية وعجزها المتنامي،رغم ضخامة آلتها البيروقراطية ،على أن تكون قاطرة ذات فاعلية لتنمية البلاد .

(يتبع)
• الحلقة القادمة:
حتى نخرج من سجن الايديولوجيا

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115