للمفارقة ما تنتقد عليه الحكومة هو ما يؤمنها اليوم ويقف خلف استمرارها ويحول دون سقوطها.
توارت حكومة نجلاء بودن عن المشهد خلال الاسابيع الاخيرة التي شهدت اضطرابات في سلاسل التزويد بالمواد الاساسية طاقية وغذائية واختبأت خلف الرئيس وتصريحاته الباحثة عن تفسير الازمة وإحالتها الى «المؤامرة» التي يفسر بها كل نقص او تقصير في عمل السلطة التنفيذية. مؤامرة كانت تقف ايضا خلف فاجعة جرجيس وغيرها من الاحداث المؤسفة التي عايشتها تونس خلال الشهر الراهن.
كل هذه الاحداث تقاطعت مع كشف صندوق النقد الدولي عن جزء من الخطة الاصلاحية التي تقدمت بها حكومة نجلاء بودن اليه وكانت كافية لتسليط ضغط مضاعف على اية حكومة وتمهد الى تحوير وزاري او تغيير حكومي شامل، لكن هذا لم يحدث مع حكومة الرئيس.
السبب هنا أن كل ما انتقدت عليه الحكومة خلال السنة الجارية عمل لصالحها هذه المرة، فتتالي الازمات المتعلقة بالمواد الاستهلاكية او ارتفاع منسوب الاحتقان الاجتماعي لم توجه فيه اصابع الاتهام الى الحكومة بل الى الرئاسة باعتبار أنها هي الماسكة بزمام السلطة وهي التي ترسم الخيارات وتتخذها.
اي ان انتقاد نجلاء بودن وحكومتها على غيابهما الكلي عن المشهد السياسي وضعف ادائهما في اللعبة طوال سنة جعل ترتيبها في سلم المسؤوليات والحكم يتراجع وتصبح لاعبا ثانويا لا يمتلك صلاحيات ولا سطة ليكون خصما للمعارضة او للشارع اللذين اختزلا خصومهما في مؤسستين. مؤسسة الرئاسة والمؤسسة الامنية. وهذا ما كشفته الاحتجاجات الاخيرة التي لم يرفع فيها شعار مناهض للحكومة بل رفعت شعارات ضد الرئيس وضد وزارة الداخلية.
لكن هذا لا يعنى ان الحكومة قد اعفيت من الانتقادات، فلئن صمتت المعارضة عن انتقادها وخيرت ان توجه الانتقاد إلى الرئاسة واستحضرت باحتشام لدى الشارع الغاضب إلا أنها تحضر وبقوة في خطابات انصار الرئيس كطرف متهم بالتقصير والضعف، ومن بين المفارقات العديدة التي تعيشها حكومة بودن، فمن ينتقدها ويطالب بتغييرها كليا او جزئيا ليس المعارضة ولا الشارع الغاضب بل انصار الرئيس الذين يعتبرون أن الحكومة فشلت في تحقيق اي انجاز لفائدة التونسيين بل ويذهب بعضهم الى اعتبارها تتبع سياسات تتناقض مع خطاب الرئيس.
هذه مفارقة أخرى. اذ ان الخطاب الرئاسي يقدم تصورات سياسية مناقضة في جوهرها لخطة اصلاحات الحكومة. فالرئيس يتحدث عن الانصاف والعدالة الاجتماعية وعن عدم التنكيل بالشعب او تجويعه، والحكومة تقدمت لصندوق النقد الدولي بخطة اصلاحيات تقضي بتقليص نفقات الدعم تحت بند «توجيه الدعم لمستحقيه».
اي ان الرئيس يتوجه في خطابه للفقراء والطبقات الضعيفة ويعدهم بالرخاء والعدل في المقابل ترسم حكومته سياسات عمومية ترهق كاهل الفقراء والطبقة الوسطي بأعباء مالية اضافية ستنتج عنها سياسة تقليص الانفاق العمومي المخصص لدعم المواد الغذائية والطاقية هذا دون اغفال ما اعلنه صندوق النقد الدولي من انه اتفق مع الحكومة على التفويت في عدد من المؤسسات العمومية.
هنا يتضح ان الخطاب السياسي للرئيس الباحث عن ضمان حاضنة شعبية تدعمه خاصة لدى الفئات الاجتماعية الهشة والطبقة الوسطى يواجه بسياسات حكومة مناقضة له. وهو ما تفترض معالجته وضع حد لهذا التناقض، خاصة وانه في الدستور الجديد والأمر الرئاسي عدد117 يحتكر الرئيس صلاحيات رسم السياسات العمومية ويكلف الحكومة بتطبيقها.
عدم تناغم خطاب الرئيس مع سياسات الحكومة يحيل بدوره لمفارقة طريفة من نوعها، وهي ان الجهة التي يفترض بها ان تحمي الحكومة وان تدعمها تقوم بشكل واع او دون قصد باغراقها، بان توجه خطاب يتناقض مع مضمون خيارات وسياسات اقرتها الرئاسة وكلفت الحكومة بتطبيقها لكنها في المقابل صدرت خطابا سياسيا ينتصل من هذه الخيارات ويدينها بشكل مباشر ومبطن.
مشهد يبدو انه سيستمر لفترة طويلة نسبيا، اذ لم لا يبدو ان الرئاسة قد تقرر التخلي عن حكومة بودن قبل الوصول الى اتفاق رسمي مع صندوق النقد الدولي وهذا يعنى أن توازنات مشهد الحكم ستحافظ على تناقضاته، حكومة لا نصير ولا داعم لها ترسم خطة اصلاحية غير شعبية ولا تحظى بدعم لا من قبل الرئيس ولا من أنصاره ولا من قبل المعارضة.
مشهد مركب وسريالي يمنح للحكومة دون جهد حيزا زمنيا للبقاء الى حين بداية تنزيل بنود خطة الاصلاحات، اي ان حكومة بودن ستظل صامدة دون اي حزام سياسي ولا شعبي وستواصل تسيير البلاد الى ان يصرف القسط الاول من القرض في الثلاثي الاول من السنة القادمة.
هنا تتجلى كل المفارقات وتتكشف لترسم مشهدا سياسيا طريفا نسبيا. فالحكومة التي انشغلت بخطة الاصلاحات الكبرى والاتفاق مع صندوق النقد الدولي منسحبة كليا من ادارة البلاد وشانها اليومي وكانها غير موجودة لا على مستوى الفعل السياسي والحكومي ولا في الصورة العامة للمشهد التونسي ككل. ورغم انها غير مدعومة من اي طرف سياسي او شعبي الا انها تضع سياسات تلزم الدولة التونسية للسنوات الاربع القادمة.