الرئاسة تفسّر نقص المواد والسلع بالمؤامرة والحكومة بـ«صعوبات التزود»: الدولة وعقلها المنفصم

يهيمن رئيس الجمهورية على المشهد العام التونسي ويعلو صوته ليحجب بقية اصوات مؤسسات الدولة وأجهزتها التي

بالكاد تتلقفها الاذن فتسمع. من ذلك صوت حكومته الخافت التي كلما تكلمت كشفت عن حقيقة اصابة عقل الدولة التونسية بالانفصام.
من يستمع الى خطاب الرئاسة وتفسيرها للأحداث والوقائع يتبين له انها تعلّل كل الازمات بـ«مؤامرة» او دسائس سياسية هدفها معاقبة الشعب/ الرئيس على خياراتهما السياسية والدستورية. والعقاب هو «التنكيل» و«التجويع» عبر الاحتكار والمضاربة وممارسات تنسب دائما الى «هم».
تفسير الازمات بأنها «مؤامرة» مع التأكيد على ان البلاد «غنية» ولها ثرواتها ذلك ما تسوقه الرئاسة في خطابها الموجه للتونسيين لشرح ما يعانونه من مشقة في تامين معاشهم اليومي نتيجة شح جملة من المواد والسلع وعدم توفرها في الاسواق التونسية واذا توفرت تشهد ارتفاعا مشطا في اسعارها.
وتتسع قائمة المواد والسلع التي اما تشهد ارتفاعا في سعرها او نقصا حادا في توفرها يوما بعد يوم لتشمل اسماء جديدة، وكل هذا يفسر على ان المضاربين والمحتكرين والفاسدين هم اصل البلية والشرور.
هذا الخطاب هيمن على المشهد طوال الاسابيع الفارطة، في ظل صمت بقية مؤسسات الدولة ومنها الحكومة التي تكلمت امس لأول مرة لتقدم ولو بشيء من الحذر وبطريقة غير مباشرة روايتها للواقع.
ذلك ان بلاغ رئاسة الحكومة الصادر امس الجمعة والمتعلق بالاجتماع الذي عقدته رئيستها نجلاء بودن بثلاثة من وزرائها حمل في طياته تفسيرا مختلفا عما قدمته الرئاسة للازمة في البلاد، ففي البلاغ المقتضب كشف ان اللقاء مخصص لتحضير ميزانية 2023 وكذلك لتحديد كيفية توفير الموارد لإنهاء الثلاثي الاخير من السنة الجارية وهذا ما ناقشته بودن مع وزير ماليتها.
كما تناول ذات اللقاء بين بودن ووزيرة التجارة «مسألة غلاء الأسعار وغياب بعض المواد الاستهلاكية وضرورة توفيرها للمواطن رغم صعوبات التزود»، فيما كانت النقاشات والتوصيات لوزير الفلاحة تتعلق بالاستعداد للموسم الفلاحي و لكيفية تجاوز مسالة شح المياه.
بلاغ خصص في الاصل للإعلان عن مضمون لقاء بودن بوزرائها لكنه كشف عن حقيقة مختلفة عما تقدمه رئاسة الجمهورية. فبقصد او دونه اعلنت بودن ان البلاد تواجه صعوبات تعبئة الموارد المالية للإيفاء بتعهدات الدولة في الثلاثي الاخيرة من السنة المالية الجارية. ولكن الاهم انها كشفت عن حقيقة ازمة المواد الاستهلاكية المفقودة من الأسواق بإقرارها الضمني ان هناك «صعوبات في التزود» والتي تتصل بدورها بصعوبات تعبئة الموارد المالية.
فما تقدمه الحكومة من تفسير غير مقصود لشح المواد والسلع هو ناتج في الاصل عن «صعوبات التزود» وهذا مختلف كليا عن تفسير الرئاسة بأنه ناجم عن الاحتكار والمضاربة، اي ان الازمة لا تنبع من مؤامرة بل من تفاقم ازمة المالية العمومية للدولة التونسية التي اثرت على نسق تزويد السوق بالسلع والبضائع الاساسية التي تحتكر الدولة عملية تزويد السوق بها عبر احتكار استيرادها.
هنا بتنا امام خطابين رسميين يفسر كل منهما «ازمة السلع»، الاول بخطاب سياسي يبحث عن ترحيل المسؤولية للخصوم فلا يقر بوجود خلل او صعوبات تجابه الدولة وتحول دون القيام بعملها والثاني خطاب «تقني» يحاول ان يطمئن الجميع بإقراره بوجود الازمة وإعلانه عن ان الحكومة في طور العمل على حلها.
وهذا يجعلنا امام اعلان من الدولة عن ان «عقلها» انفصم وبات منقسما لشقين مما يثير مخاوف تتعلق بالأساس بتداعيات هذا الانقسام الذي اصاب عقل الدولة على عملية ادارة الملفات والشأن العام خاصة وان البلاد وضعت كل رهانها على بلوغ اتفاق مع صندوق النقد الدولي وهو رهان لا يمكن كسبه بعقل منفـصم.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115