حرية التعبير والإبداع في تونس: مخــاطر التقييم الأخلاقوي

«من هنا فصاعدا اي عرض فني يمس من الذوق العام سننسحب منه وسنرفض تامينه فلن نقبل ان نكون طرفا في جريمة اخلاقية» هذه الكلمات

صدرت عن احد المسؤولين النقابيين الامنين يمكنها ان تختزل الازمة التي تعيش على وقعها البلاد منذ 2011 في علاقة بالأدوار التي تعمل الاجهزة الامنية ونقاباتها على إفتكاكها في ظل هشاشة اصابت الدولة وانتقلت لتصبح انفلاتا طال اجهزتها الامنية التي باتت اليوم تقيم الاعمال الفنية وتقرر ايها اخلاقي وايها لا ويعتبر جريمة.

تلويح النقابات الامنية بالامتناع عن تامين العروض الفنية او الرياضية- وان كانت هذه المرة بعباءة حماية الاخلاق الحميدة- ليس بالأمر الحدث او المفاجئ فقد تكرر الامر طوال السنوات العشر الفارط بشكل دوري، اما بالامتناع عن تامين عروض موسيقية او تامين تظاهرات وأنشطة رياضية بل و»التهجم» على رؤساء حكومات او وزراء مشرفين وتم التطبيع معه وتقبلته السلطات السياسية التي اختارت ان تتجنب توتير علاقتها بالامنين او ان تصطدم معهم ان اتخذت خيارا التصدي لحالة الانفلات التي شهدتها الاجهزة الامنية جراء توسع صلاحية النقابات وسطوتها و التي بدورها تتأثر وتتناغم مع المناخ السياسي العام.
مناخ سياسي متوتر ومشحون غاب عنه الاستقرار في فترات عدة ومتقطعة دفع بالسياسيين ممن تقلدوا شؤون الحكم الى انتهاج سياسة تبحث عن احتواء الاجهزة الامنية وتوظيفها في بسط نفوذ الحكم وضمان استقراره فسمحت بشكل واع وقصدي بان تمر تجاوزات خطيرة دون اي رد فعل او تتبع أومساءلة، وهنا جل من امسك الحكم يتحمل مسؤولية استمرار الانفلات و التمرد الصادر عن اعوان امن لاعتماده سياسية الاحتواء والافلات من العقاب وترك تجاوزات وانحرافات خطيرة تمر دون مساءلة او محاسبة.

ونتيجة لكل هذا بلغنا اليوم هذا المربع الذي نحن فيه والذي يتمثل في ان يصبح الفضاء العام بمختلف تمظهراته وتفرعاته فضاءا تحت سطوة رجال الامن وتقديراتهم وهو ما تؤسس له وتأصله البيانات والتصريحات والمواقف الصادرة للتبرير والدفاع عن سلوك اعوان الامن يوم الاحد الفارط في صفاقس وتدخلهم سواء بزيهم النظامي او المدني لايقاف عرض مسرحي لاعتراضهم على مضمونه واعتباره مس من الاخلاق الحميدة.

اخلاق تحدث عنها بيان وزارة الداخلية التي قدمت روايتها لما جد يوم الاحد في عرض لطفي العبدلي بصفاقس، وحملت فيه المسؤولية له باعتباره قد بادر بفعل غير اخلاقي استفز اعوان الامن، ذات الاخلاق تحدثت عنها النقابات الامنية ورفعت لواء الدفاع عنها وحمايتها بل وتحملت مسؤولية اعادة تعريف «الفن» والابداع ووضع نواميس وقواعد له من مقاربة اخلاقوي ستتولى النقابات اليوم ضمان تنزيلها وتطبيقها على العروض المسرحية والفرجوية والموسيقية وإلا فأنها لن تؤمنها.

وهنا نكون امام عملية ارتهان تكون فيه الغلبة للأجهزة الامنية ونقابتها على فضاءات الانشطة الثقافية والأدبية ويكون المعيار المحدد هنا هو مدى ملائمة المنتوج الادبي او الابداعي او الفني مع الاحكام الاخلاقوية لجهاز امني وجد في سلطة الاشراف عنه ما يحميه ويبرر له هذا الانحراف الخطير.
اذ ان الخطر اليوم ليس في تمدد سطوة وصلاحيات النقابات الامنية التي برزت هذه الصائفة مع انطلاق المهرجانات وتجاوزات عدة وقعت من تعنيف عدد من القائمين على ادارة المهرجانات الصيفية او رفض لتامين عروض معينة لأنها تتضمن انتقادا للأداء الامني. الخطر اليوم ان الاجهزة الامنية تمادت في بسط نفوذها وهيمنتها على الفضاءات العامة لتبلغ مرحلة رسم المعيار الاخلاقي والتدخل في العملية الابداعية ومحاولة تطويعها لمزاج نقابة او جهاز او فرد كل ما يمتلكه هو انتسابه لجهاز امني.

اليوم الخطر لا يقف عند التضيق على حرية التعبير والابداع او التاسيس لهيمنة القطاعية على الفضاء العام ولا يقف في ان يصبح سلوك متناقلا بعدوى الافلات من العقاب فتصبح المهمة او الوظيفة والدور سلاحا يلوح به كل قطاع ضد التونسيين لاجبارهم على الاستجابة اما لمطالبه او لإحكامه الاخلاقوية والقيمية.
الخطر اليوم ان البلاد وضعت على سكة «المغالبة» من جديد، فتصبح عمليات الهيمنة والاستحواذ على الفضاءات والمجلات وإخضاعها كليا لسلطة «قطاع» او «جهاز» هي الية ادارة الخلافات والاختلافات عوضا عن الاحتكام لقواعد وقوانين تمكن كل من يعتبر انه تعرض الى مظلمة او إساءة من اللجوء الى القضاء والاحتكام اليه عوضا عن المرور الى بسط الهيمنة وفرض الاراء والأحكام.

خطر يتضاعف في ظل مناخ سياسي يتسم بالاحتقان والبحث عن حسم كل المعارك بقوة وبفرض الامر الواقع ومع نص دستوري يتضمن فصولا غامضة يمكن تأويلها وفق ما تريد السلطة السياسية او اي سلطة على غرار الفصول التي تمنح الدولة صلاحية ادارة المجال الاخلاقي لشعبها ورسم ملامحه وتحديد ماهو اخلاقي وما هو لا.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115