إصلاح التعليم بين متاهات السياسة والإيديولوجيا

في يوم العلم ألقى رئيس الدولة قيس سعيد خطابا صرّح فيه بتقييمه لمختلف الإصلاحات التربوية التي جدّت في تونس المستقلة منذ الإصلاح الشهير لسنة 1958

الذي ارتبط باسم محمود المسعدي وصولا إلى إصلاح محمد الشرفي في بداية التسعينات مرورا بإصلاح محمد مزالي في أواسط السبعينات معتبرا أن الإنجاز الوحيد قد حصل سنة 1958 أما فيما سوى ذاك فقد تسللت السياسة إلى التعليم فأفسدته لأنها بحثت عن توازنات ما وانتصرت لفريق على حساب آخر والدليل القاطع غلى إفساد السياسة لكل شيء – بما في ذلك التعليم – فقد تحالف اليوم خصوم الأمس (أي الحداثيون والإسلاميون) بعد أن لفظهم الشعب جميعهم إثر مسار تصحيح الثورة واستفتاء 25 جويلية .
لا نريد التوقف عند استدعاء الخصومة الفكرية حول اعتماد اللهجة الدارجة كلغة رسمية للدولة أو للتدريس وربط هذا بالتبعية للاستعمار الفرنسي إذ بهذا يصبح اليوم من يدعو إلى الاعتماد الكبير على الانجليزية في التعليم وكأنه عميل للولايات المتحدة ولا على تردي مستوى التعليم والذي من أسبابه ترك مهارات هامة كتعلم الخط مثلا ..نريد فقط أن نقول أننا أمام آراء انطباعية لا تتأسس على دراسة دقيقة لواقع المدرسة التونسية على امتداد كل عشريات تونس المستقلة..
علاقة كل الأجيال بالمدرسة علاقة عاطفة شخصية، فالمدرسة بالنسبة الينا هي في الحقيقة محصل تجربتنا الشخصية المتوسعة إلى أتراب القسم في الأغلب الأعم لا غير..والامتياز الاستثنائي الذي نسقطه على مدرسة الستينات أو السبعينات إنما هو في الحقيقة قصص نجاحاتنا الشخصية النسبية لا الواقع الموضوعي للمدرسة آنذاك.

يكفي أن نعلم أن في مدرسة آخر الستينات أن نسبة ارتقاء التلاميذ من الابتدائي الى الثانوي الطويل أو المهني لم تكن تتجاوز %40 وان نسبة تمدرس التلاميذ في الثانوي الطويل (أي الإعدادي والثانوي اليوم) كانت دون %20 وان حظوظ الحصول على شهادة جامعية كانت دون %2 من الجيل الأول للاستقلال ..
ومن هؤلاء الناجحين الذين تمكنوا من تجاوز كل الحواجز هنالك متفوقون وطلبة وتلاميذ استثنائيون ولكن غالبية المتمدرسين قبل أواسط السبعينات كانوا ينقطعون منذ الابتدائي ولا يلتحق بالجامعات حينها إلا النزر القليل ويكفي أن نعلم أن عدد السكان تضاعف مرة واحدة منذ بداية السبعينات إلى سنوات الألفين

بينما تضاعف عدد الطلبة حوالي مائة مرة ..
الفرق النسبي الأساسي هو أن من يبلغ مستوى الباكالوريا في سبعينات أو حتى ثمانينات القرن الماضي يجد شغلا بسهولة بينما أصبح الأمر مأساة بالنسبة لمئات الآلاف من خريجي الجامعات منذ بداية هذا القرن ..
المدرسة التونسية كانت ومازالت تنتج التفوق ولكن لأقلية صغيرة للغاية وهنا نحن نعاني من هذه المشكلة لا فقط منذ عشرية أو عشريتين ولكن منذ عقود طويلة.
المطلوب من المسؤول في السلطة أن يقدم حلولا لا أن يكتفي بانطباعات عامة غير دقيقة.

المسالة ليست في إقحام «السياسة» في التعليم ، وكأن السياسة رجس من عمل الشيطان أو في الإسقاط الإيديولوجي لعالم الكهول على التلاميذ وهذا لم تخل منه سياسة تربوية منذ 1958 إلى حدّ اليوم،السؤال الجدي الوحيد هو كيف نجعل التميز والتفوق لا فقط وطنيا بل في المنافسة الدولية الشرسة أمرا متاحا للغالبية العظمى من تلاميذنا إناثا وذكورا ؟!

على حدّ علمنا لم يوضع هذا السؤال في محور أي إصلاح تربوي في تونس لا في الأمس البعيد أو القريب أو اليوم .. والسبب واضح إذ أن ذلك يفترض علينا جميعا سلطة وإدارة ومجتمعا ومربين وأولياء أن نخرج جميعا من دائرة الرفاه وأن نفكر لا من خلال ما يريد السياسي المؤدلج أو التكنوقراطي من التعليم بل كيف نجعل من أكثر من مائتي ألف تلميذة وتلميذ في السنة الأولى ابتدائي متميزين في المكتسبات الأساسية : الرياضيات والعلوم وفهم النصوص وكيف نحافظ على هذا التميز ونعمقه سنة بعد أخرى ؟
هل يمكن أن نفعل هذا دون أن نجلب إلى مهنة التعليم أفضل الطالبات والطلبة ؟ وهل يمكن أن نفعل هذا بمستوى التأجير الحالي وبالظروف الهيكلية للمدرسة اليوم ؟
الجواب قطعا لا والإصلاح ينبغي أن ينطلق من تغيير تدريجي وجذري لهذه المعطيات الهيكلية ..

الإشكال لا يكمن أساسا في «تسرب» السياسة أو الايدولوجيا إلى المدرسة بل في إيجاد المربي(ة) الحاذق للرياضيات ولفلسفتها ولتقنياتها ولجدواها في تشكيل العقل وملكة الحكم وبالتالي استقلال الإرادة وتطوير العقل النقدي وأن يوجد هذا الإطار التربوي في كل فصول المدرسة الابتدائية في المدن وفي الأرياف وفي السواحل وفي الدواخل، وما نقوله عن الرياضيات يصح أيضا على كل المكتسبات الأساسية الأخرى..

ما سيحصل اليوم وغدا هو مواصلة صراع الكهول وتيههم السياسي والإيديولوجي واستعمال المدرسة لتركيز حكم هذا أو ذاك دون إصلاح حقيقي يجعل من الغالبية العظمى من شبابنا مسلحين بكل أدوات العلم والمعرفة والمهارات التقنية والروح الفنية ليرسموا طريقهم في الحياة، وما على الساسة إلا إعداد المجتمع والمؤسسات الاقتصادية وعالم المهن الذي يتلاءم مع هذا التفوق ..وكل ما سوى ذاك لا طائل من ورائه.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115