وتفاوتت ردود فعل التونسيين مما يحدث بين السخرية والتهكّم والتندّر والانتقاد الشديد والاستياء، ومع ذلك لم يَدر بخُلد أحد أن يؤول الأمر إلى «تغليق» أبواب البرلمان ووضعه تحت حماية الجنود وتطويقه بالحواجز. وعلى مرّ الأشهر بات هذا الفضاء برمزيته السياسية والتاريخية، بناية لا حياة فيها. وأفضت هذه التحوّلات إلى تجميد السلطة التشريعية فلا رقابة على أداء الحكومة، ولا مناقشة للقوانين ولا اقتراحات ولا استعراض لسلطة «نائب الشعب» ولا تدخلات ولا ضغط على مختلف المؤسسات ولا مقايضة ولا تهديد ولا تطاول.
ولئن تعطّل عمل مجلس الشعب فإنّه ظلّ موضوعا للجدل حول المشروعيات وأمن البلاد والتواطؤ مع الجهات الأجنبية والتآمر على أمن الدولة والنظام الانتخابي وغيرها من المسائل التي تشير إلى صراع مختلف القوى حول الهيمنة والسلطة. ولم يتوقّف الأمر إذ لازال المجلس «المجمّد» حاضرا في تعليق مختلف الفاعلين السياسيين فالبعض يعتبر إعادة تفعيله افراضيا هو كمن ينفخ في جثة ميت ويريد إحياءه والبعض الآخر يرى في تلك المحاولة استفزازا وتعديا على سلطة الرئيس المنتخب بل هي انقلاب وعلامة فتنة.
أمّا المحلّلون السياسيون وأهل القانون فإنّهم يرون أنّ التوصيف يختلف وفق المؤول فهو حسب البعض ليس حلاّ للبرلمان بل تعليقا لنشاطه أو تجميدا له سيؤدي لامحالة إلى «مأزق دستوري» وهذا يعني أنّ «البرلمان ما زال قائماً قانوناً وأن رئيس الجمهورية لا يملك في الوقت الراهن إمكانية دستورية لحلّه» وفي المقابل يذهب آخرون إلى أنّ الإجراء يمثّل مطلبا شعبيا منذ 25 جويلية وأنّ الرئيس تأخّر في تنفيذ إرادة الشعب، وهو قادر على فرض إرادته بمنع عدد من الأحزاب من العودة إلى الحياة السياسية دون اللجوء إلى الدستور...
وهكذا ازداد الوضع تعقّدا وصارت الأزمات مركبة وبحلول الأزمة الدستورية، وتباين القراءات التأويلية واختلاط التحليل بالأيديولوجيا والميولات السياسية والطموحات صار من الواجب الاعتراف بانّنا أصبحنا خارج الإطار المعتاد المنظم للحكم. فالحكومة تشتغل بمعزل عن «حزام» مكوّن من أحزاب وبرامج سياسية وأغلبية برلمانية وبدون رقابة برلمانية فلا تساءل أو تحاسب والأوامر تصدر دون نقاش و...
ولئن اعتبر حلّ البرلمان إجراء معمولا به إذ سبق لـ«المغرب» مثلا أن عاشت تجربة مماثلة نقلت فيها الوظيفة التشريعية، إلى حدود إجراء انتخابات جديدة، إلى الملك باعتباره «ضامن دوام الدولة واستمرارها» طبقا لما جاء في الفصل 42 من الدستور المغربي 2011 فإنّ خصوصية الوضع التونسي تتمثّل في أنّ الوضع الدستوري أصبح غير واضح ومشوب بضبابية كبرى يُضاف إلى ذلك انتشار قناعة لدى فريق من التونسيين بأنّه لا حاجة لنا إلى انتخاب برلمان جديد وتحمّل نفقات تُصرف على مؤسسة كانت سببا في «الخراب» وإذا ما أضفنا إلى هذا الرأي ما يتداوله عدد من التونسيين من أفكار تدعو إلى تقليص عدد
الأحزاب أو تجميدها وما ورد في كلمة الرئيس من إشارات إلى إقصاء عدد من «اللاوطنيين» من الحوار فإنّ الاتجاه السائد لدى عموم التونسيين هو الرجوع إلى النظام الرئاسي وإلى «القبضة الحديدية» فنحن شعب لا يساس بالنقاش والتفاوض واحترام التعددية.
وهنا تطرح مجموعة من الأسئلة: هل أنّ التونسيين على استعداد للتفاعل مع استشارات واستفتاءات جديدة حول نظام الحكم المنشود وآليات تنظيم العلاقة بين مختلف السلط وغيرها من المسائل، والحال أنّهن قد كفروا بالسياسية والسياسيين والممارسات الديمقراطية والآليات الديمقراطية أو هم مقاطعون لهذه الإجراءات؟ وإلى أي مدى سيتحمّل التونسيون النقاشات حول الدستور وفصوله والتناقضات الكامنة فيه، ومختلف القراءات التقنية، والتأويلات المتباينة ومشروع إعادة كتابة الدستور وإعادة النظر في القوانين المنظمة للعلاقة بين السلط والانتخابات...والحال أنّ هذا الوضع السياسي الهش يهدّد قوت الناس؟