يمكن للبعض أن ينظر إلى جملة الأحداث التي عشناها منذ خمس سنوات على أنها سلسلة منفصلة من الوقائع والمستجدات والمظاهر والعلل وأننا نتعامل مع مسائل متفرقة ومتنوعة وغير مرتبطة موضوعيا من تفكيك منظومة استبداد وإعادة كتابة عقد اجتماعي مدني صرف وترسيخ لممارسات ديمقراطية متقدمة ومجابهة لمطالب وانتظارات اجتماعية واقتصادية وكذلك إضمار مجموعات إرهابية التربص بمنوال عيش التونسيين ونسف خيارهم الديمقراطي عارضين عليهم دعوة إلى غياهب قروسطية قاتمة.
إن ما يجري اليوم في بلادنا وفي محيطها إنما يشكل وحدة متكاملة ومتناسقة تتخذ مظاهر وأشكالا مختلفة فكل تجزئة أو عزل لحدث عن بقية الأحداث إنما يندرج في إطار عدم فهم ما يجري وعدم إدراك لكنه اللحظة ومداراتها العميقة.
أحداث بنقردان هي الإجابة المتقدمة والتي ستليها أخرى لمن لا يرضيه إقامة مجتمع أغلبيته الساحقة من العرب والمسلمين قوامه مبادئ المساواة بين الجميع والاحتكام لرأي الناخبين في تحديد هوية الحاكمين ويعلي كرامة البشر وحقوق الإنسان كخياره الحضاري الوحيد.
رفع التونسيون منذ خريف 2010 شعارات إسقاط الاستبداد ودحض الفساد وإقرار الحرية والمساواة قيما ثابتة وثابروا على ذلك حتى احتكموا لإرادة أغلبية الناخبين من بينهم في تحديد ملامح العقد الاجتماعي واختيار حكامهم لثلاث مرات متتالية.
وأحداث فجر السابع من مارس بنقرادن ومن قبلها الروحية وسيدي علي بن عون وباردو وسوسة والشعانبي وسمامة ومحمد الخامس ومنوبة وإحراق أضرحة الأولياء وإنزال العلم الوطني واغتيال الزعماء السياسيين وغيرها إنما تندرج في إطار واحد وترمي إلى هدف واحد.
فهي تشكل إجابة جلية الملامح واضحة المعاني والأهداف اذ هي رد القوى التي لا تؤمن بالكرامة البشرية والمساواة والديمقراطية نهجا وخيارا ومنوالا لإدارة المجتمع على كل ما أنجز التونسيون منذ 2010.
إن هذا الوضع المتقدم من الصراع الحضاري الذي استقام أمامنا اليوم لا يرتضي تموقعا لأي كان خارج خندقين اثنين.
خندق الذين يحملون السلاح ويأتون القتل والذبح والخراب والذين يريدون بالمجتمع التونسي بما فيه دولته العودة إلى محددات الإطلاق القروسطي واستبدال خيار المواطنة بخيار القطيع واستبدال رأي الأغلبية باعتباط أفراد انتصبوا ولاة هلاميين على الناس.
يجابهه خندق الذين يقرون بالاحتكام لرأي أغلبية المواطنين في تحديد ملامح عيشهم المشترك في إطار ضوابط الدولة المدنية والمساواة بين المرأة والرجل والتداول السلمي على السلطة والنسبية في اختيار الحلول والسياسات ومقاسمة بقية النوع البشري قيمه الكونية.
لا تتحمل تونس اليوم وقوفا على الربوة وعدم الاصطفاف بجهة أو بالأخرى وهذا لا يعني أن الذين يتموقعون في خندق مجابهة الإرهاب راضون بالضرورة على إدارة الشأن العام كيفما يسطره حكام تونس اليوم أو على مراهقة جزء كبير من طبقتهم السياسية المتلهية بسخيف حسابات دكاكينها إلا أنهم يدركون أن هذه الحرب التي بدأت تكشر عن أنيابها ستكون طويلة ومضنية وأن العدو لا يميز بين درجات الاختلاف النسبي ضمن مكونات الخندق الذي أمامه.
اللحظة ليست لحظة التفاصيل فهي لحظة الكليات فلما ننتهي من منازلة من نختلف معه في الكليات نعود لنلتفت إلى خلافنا السلمي والمدني الصحي والطبيعي مع من لا نلتقي معه في الجزئيات.
هكذا الحروب فهي لا تتحمل رفاه التفاصيل!
علينا أن نعي أن كل الصراعات المسلحة الواضحة أو المبطنة التي تعيشها منطقتنا لها معانيها وأطرها الخاصة فهي تأجيج لضغائن قبلية أو عرقية أو طائفية أو تموقعات بالوكالة لقوى خارجية إلا ما يحدث في تونس فمداره حضاري ومرماه تهشيم ما شيد على درب بناء أول دولة مدنية وديمقراطية عربية.
تأسيسا على ذلك فالخيار واضح أي الخندقين نختار إذ لا ثالث لهما.
تعيش الأمة التونسية بدايات حقبة وجودية لا تتحمل المواقف الرمادية وتفترض مسؤولية ووعيا تاريخيا بالمرحلة من قبل الطبقة السياسية ونخب المجتمع جميعها.
اذ تعلمنا التجارب التاريخية أن القوى الفاشية لا تتسرب إلا من ثقب انشقاقات المواقف المترددة التي تقابلها.
فلنعِ اللحظة جيدا!