تونس في مهب الأزمات العالمية: حوكمة ضعيفة واستباق مفقود

يبدو أن البلاد تتجه نحو تقاطع كل الازمات التي تشقها كما يبدو أن الازمنة السياسة والمالية والاقتصادية والاجتماعية ستتقاطع

في نقطة ما وان هذا التقاطع قد يكون كارثيا على البلاد.
لا يوجد عاقل واحد يحمل الحكومة الحالية مسؤولية هذه الازمات المعقدة والكل يعترف - وإن تعددت الغايات واختلف القراءات - أننا بصدد حصد نتائج سياسات خاطئة بعضها يمتد على كامل العشرية السابقة وبعضها الآخر يتجاوزها ليكون اكثر عمقا وهيكلية،ولكن مع هذا الإقرار المبدئي تتحمل الحكومة الحالية نتائج حوكمة هذه الأزمة وحسن التصرف في امكانيات البلاد وفيها ..

أزمتنا الحالية ليست مالية فقط، أي لا تكمن في تفاقم المديونية العمومية وفي ضرورة الاقتراض الخارجي بشروط معقولة حتى تتمكن الدولة من احترام كل تعهداتها والتزاماتها..
نحن هنا أمام نتيجة كل السياسات والممارسات التي اضعفت آلتنا الإنتاجية وأثقلت كاهل إدارتنا بتضخم الانتدابات ومنعتنا من القيام بالاصلاحات الضرورية في إبانها، ثم جاءت جائحة الكوفيد لتكشف المستور ولتفصح عن الاختلالات العميقة لكل منظوماتنا الاقتصادية وللهشاشة التي اصبحت تهدد وجود بعضها ..
والسؤال المطروح هو ماذا فعلت السلطة الحالية ازاء كل قبل هذا ظهور الانعكاسات الاولى للحرب الروسية على اوكرانيا ؟

نحن امام انشطار مخيف لعقل السلطة في البلاد : الجزء الأكبر منه مخصص فقط للمشروع الهلامي لرئيس الدولة القائم على فكرة بسيطة ولكنها خاطئة : تونس دولة غنية ولكنها منهوبة، والخطأ لا يتعلق هنا بوجود من ينهب بل بكون تونس بلاد غنية..

أما الجزء الاصغر والاضعف في عقل السلطة فيتعلق بالتسيير العادي للدولة في ظروف لا شيء فيها عادي: لا الوضع السياسي الغائم والمليء بالمخاطر ولا الوضع المالي الحرج للغاية ولا الوضع الاجتماعي المهدد بالانفجار في كل لحظة ..
أمام هذه الصعوبات الموضوعية الموروثة أو المفروضة على الحكومة اضافت إليها القصبة التزام الصمت المطبق وتطبيق نفس السياسات السابقة وتعليق كل سلتها على الاتفاق مجددا مع صندوق النقد الدولي دون أن نرى علاجا جادا للمشاكل الطارئة (ازمة النفايات في صفاقس نموذجا) أو العمل على بلورة الحلول الجديدة التي ستسمح للبلاد بالخروج السلس من هذه الاوضاع الصعبة.

الحل الحكومي الوحيد هو حزمة من القرارات التقشفية كرفع الدعم التدريجي عن المحروقات والذي دخل حيز التنفيذ منذ بداية هذه السنة ورفعه تدريجيا كذلك عن المواد الأساسية بداية من السنة القادمة والترفيع في معاليم الكهرباء والغاز وتجميد الانتدابات والتقليص من حجم الزيادات في الاجور وذلك على امتداد السنوات الأربع القادمة والنتيجة المرجوة هي بقاء نسبة التداين العمومي في نفس المستوى فقط لا غير .. كل ذلك دون حوار مع الشركاء الاجتماعيين وفي تجاهل تام للراي العام التونسي.
لا يكمن الاشكال فقط في «استراتيجية» الحكومة لمجابهة الازمة المالية بل في انشطار عقل الدولة وما ينجر عنه من تشتيت لجهودها وغياب كلي لنجاعتها لأن التشخيص الخطأ لا ينتج عنه سوى الحلول الخطأ.
هذا كان وضعنا قبل تداعيات الحرب الروسية على اوكرانيا وما يصاحبها،الى حد الآن، من ارتفاع مهول لاسعار المحروقات والحبوب والذي لو استمر على هذا النسق سيكلف ميزانية الدولة بين 7و10 مليار دينار كاملة ونضيف الى كل هذا تدحرج ترقيمنا السيادي الى «ج» (C) الى مستوى عالي المخاطر مع شبه عزلة دولية وعدم الوضوح مالات المحادثات التقنية مع صندوق النقد الدولي..

فقدان بعض المواد الأساسية من الأسواق أو الاضطرابات الكبرى في التزود بها كالزيت النباتي والسكر والارز والفارينة والسميد والخبز ،كل هذا نتيجة سابقة لتداعيات الحرب في شمال أوروبا وهذه الوضعية ستزداد موضوعيا تعكرا وصعوبة في الاسابيع والاشهر القادمة
ما الذي سنفعله ازاء كل هذا؟

المفروض في وضعية كهذه ان تعلن الدولة عن حالة الطوارئ الاقتصادية والاجتماعية وأن تجتمع كل المنظمات الاجتماعية والقوى السياسية الأساسية وأهم كفاءات وخبرات البلاد للتفكير في سبل المواجهة الآنية والمستقبلية وان تقع طمأنة الراي العام وأن نشرح له كل الاجراءات والقرارات التي سيتم اتخاذها وأن نطالبه بالتفاعل الإيجابي معها حتى نعقلن كل ردود الافعال عند المنتج والتاجر والمستهلك في نفس الوقت ..

لو يحصل كل هذا سنتمكن من تجنيد كل القوى وسنتجاوز هذه الأزمة بأخف الاضرار كذلك لو وضعنا من الآن اللبنات الأولى لاستراتيجيات المستقبل لتحقيق المناعة الغذائية والطاقية لبلادنا ولكننا بدلا من كل هذا واصلنا في انشطار عقل السلطة جزء منه يتخبط لوحده في المشاكل المزمنة لليومي والجزء الأهم يعلن الحرب على المضاربين ويسهم ،من حيث لا يدري،في مزيد هلع التونسين ..

سوف ندفع جميعا ثمن الاخطاء السابقة واللاحقة لادارة البلاد وسيكون الثمن اكثر حدة كلما ابتعدنا عن مقتضيات العقل في حدوده الدنيا.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115