أقل من أسبوعين على نهاية «الاستشارة الالكترونية»: استمرار إنكار التعثر والهروب إلى الأمام

منذ ان كانت فكرة لدى رئيس الجمهورية في 2020 مثلت الاستشارة الشعبية الشبابية، كما كان اسمها حينها، من أوكد رهانات الرئيس الذي بحث عبرها

عن توفير مشروعية وحاضنة شعبية لمشروعه السياسي، وظل الرهان قائما مع تعديل الاسم من الاستشارة الشبابية الى استشارة شعبية الكترونية اذ لم يكن الرهان الاساسي للاستشارة التي اعلن عنها الرئيس في 13 ديسمبر الفارط وانطلقت فعليا في 15 جانفي 2022 في عملية سبر اراء التونسيين ومعرفة انتظاراتهم او مطالبهم، بل كان الرهان سياسيا وهو توفير «مشروعية» للمشروع السياسي وللمسار برمته الذي انطلق في 25 جويلية من السنة الفارطة.
اذ ان الاستشارة التي اعدت اسئلتها وإجاباتها بهدف توفير هامش من التوجيه الصريح لخيارات التونسيين نحو البناء السياسي الذي يسوق له الرئيس وأنصاره، نظام رئاسي وانتخابات على الافراد وسحب للوكالة كخطوات اولى في اتجاه ترسيخ «الديمقراطية المباشرة» القائمة على حكم الشعب لنفسه بنفسه دون حاجة إلى وسطاء او ممثلين له.

بشكل اوضح حملت الاستشارة الشعبية الالكترونية الكثير من الرهانات السياسية والتي علق عليها مصير المسار السياسي برمته- الذي استهل بالاستشارة وينوي الانتهاء بانتخابات تشريعية في 17 ديسمبر القادم- بما جعل من الاستشارة اول محطة لاختبار فعلي «لمشروعية» المسار السياسي الذي يتضمن إجراء استفتاء في 25 جويلية القادم.

تحميل الاستشارة بهذا الثقل والرهانات عبّر عنه في عدة اطوار ومناسبات سواء من قبل الرئيس قيس سعيد او من قبل اعضاء حكومته منذ منتصف جانفي الفارط، اذ جعل وزير الشباب والرياضة في تصريحات له من تسجيل نسب مشاركة تتجاوز 25 % من الجسم الانتخابي ابرز الشروط الموضوعية لنجاح الاستشارة في التعبير عن انتظارات التونسيين، اي ان يشارك اكثر من 2.2 مليون تونسي فيها.

لكن حسابات الحقل مختلفة عن حسابات البيدر. فالرئاسة التي وضعت كل ثقلها وراهنت على الزخم الشعبي الناتج عن ابعاد حركة النهضة عن مقاليد الحكم، لم تنتظر ان تكون المشاركة دون المأمول وتحت سقف توقعاتها بكثير، اذ ان الرقم المسجل لعدد المشاركين الى حدود كتابة المقال دون 280 الف مشارك.
عدد لا يبدو انه سيرتفع ليحقق عتبة نصف مليون مشارك رغم كل محاولات الجهة المبادرة ومنها تنزيل سن المشاركة الى 16 سنة والحملة الاتصالية وغيرها من الاجراءات الهادفة لرفع نسبة المشاركة. مما جعل الرئاسة تستشعر تعثر الاستشارة وتبحث عن احتواء الأمر.
احتواء انطلق بخطاب الرئيس الذي قام على اتهام خصومه بافشال الاستشارة واتهمهم صراحة بأنهم قاموا بكل شيء لتفشل. اي جعل الامر بمثابة «مؤامرة» يراد منها ايقاف المسار السياسي منذ بدايته بافشال الاستشارة وهذا الخطاب انتقل من الرئيس الى محيطه الذي اختار ان يحصن الاستشارة ونتائجها بخطاب جديد.

خطاب وقع فيه التخلى عن «المؤامرة» والانتباه الى اعادة صياغة اهدف الاستشارة ورهاناتها، فمن التلميح الى ان الاستشارة هي من ستوفر غطاء سياسيا اي مشروعية بمقتضاها يؤمن المسار ويحمى بمقبولية شعبية، باعتبار ان الشعب منح الرئيس تفويضا للذهاب في نهجه السياسي المعلن عنه منذ 25 جويلية الى الحديث عن ان الاستشارة لا تعدو ان تكون الا عملية سبر اراء.

اذ بات الخطاب المعتمد من قبل انصار مشروع الرئيس اليوم هو تصنيف الاستشارة في خانة «استطلاع الاراء» اي جعل الهدف منها مقتصرا على معرفة اراء عينة من التونسيين توفر للسلطة صورة تقريبية عن الاتجاهات الكبرى، التي بمقتضاها سيقع معرفة الاولويات ورسم سياسات عمومية وفقها.
بعبارة ادق الانتقال بالاستشارة من معناها واثرها السياسي الى المعنى الاحصائي الذي يزيل عنها الحرج ويؤمنها من التقييم المعياري الذي بموجبه تمنح شرعية للخيارات السياسية، فهذا يوفر مخرجا للسلطة للابتعاد عن انتقادات تقوم على ان في ضعف نسب المشاركة هو اشارة إلى ان المسار السياسي لم يقنع التونسيين بالانخراط فيه وبالتالي فانه ليس محل توافق ليكون بمثابة تأسيس جديد او ليحدد قواعد لعب محل توافق مجتمعي يؤمن لها الاستمرارية بعد مرحلة قيس سعيد.

وضع وجد له مخرج سيفرض بقوة الامر الواقع، وهو ان يلغى الرهان السياسي للاستشارة والنظر اليها على انها محطة اولية توفر مشروعية نسبية بامكانها ان تبرر الغاء نتائج انتخابات 2019 وتنسف المشروعية التي قام عليها النظام السياسي التونسي. وتحل مكانها مشروعية وشرعية جديدة للرئيس وللمشروع السياسي. والمشروعية هنا عنصر اساسي في المسار السياسي القائم وفي مشروع الرئيس الذي تحدث باسمها وجعل بينها وبين الشرعية فوارق ليؤصل بها ويوفر غطاء قانونيا ودستوريا وسياسيا لخياراته السياسية منذ 25 جويلية.

مشروعية شعبية تعذر على الرئيس ان يؤمنها لمساره السياسي مما اجبر انصاره على تبنى مقاربة سياسية بموجبها يقع تخفيف من اثار الاستشارة السياسية وحصرها في خانة «الاستطلاع» واعتبار انها غير ذات اثر على «الشرعية والمشروعية» على اعتبار ان الرئيس امنها لنفسه ولنهجه السياسي في انتخابات 2019 التي اختار فيها التونسيون قيس سعيدا رئسيا ليحكم تونس ويقبع على اعلى هرم السلطة.

هذا يعنى بشكل اوضح اننا سنقف في الايام القليلة القادمة على خطاب سياسي جديد في علاقة بالاستشارة الشعبية التي ستقدم على انها نجحت في تحقيق اهدافها، وهي الاطلاع على الاولويات ومطالب التونسيين في مختلف شؤونهم الحياتية اضافة الى انها وفرت عينة تمثيلية احصائية لصناع القرار تمكنهم من معرفة التوجهات الكبرى.

بهذا يقع الالتفاف ويقع تجنب الاقرار بفشل الاستشارة ويحل بدلا عن ذلك خطاب انتصار وتحقيق للاهداف بما يمكن من المرور للمرحلة الثانية دون حاجة للمراجعة والتقييم لمعرفة ان المسار السياسي الراهن قد فشل في ان يجمع التونسيين بما يجعله «غير محصن» من الهزات والتقلبات ويجعله مقترنا فقط بشخص الرئيس وبالتوازنات الراهنة التي متى شهدت اعادة رسم سيكون المسار ومخرجاته اول ما ينهار.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115