بعد أن أعلن عن أن المجلس الأعلى للقضاء في عداد الماضي: قيس سعيد يمرّ إلى السرعة القصوى

سؤال كان على كل الشفاه: هل سيحلّ رئيس الدولة المجلس الأعلى للقضاء أم سيكتفي بالضغط عليه؟ ولم تتاخر الإجابة كثيرا إذ جاءت في الليلة الفاصلة

بين الخامس والسادس من فيفري ومن مقر وزارة الداخلية ،ولم يكن القرار سياسيا فقط، أي لفظيا، كمل خيل للبعض يوم الأحد 6 فيفري بل رافقه فورا غلق مقر المجلس ومنع أعضائه والعاملين فيه من دخوله من قبل قوات الأمن المحيطة بالمبنى ..
نحن إذن أمام حلٍّ فعلي للمجلس الأعلى للقضاء في انتظار صدور مرسوم رئاسي يوضح الصبغة الوقتية أو النهائية للهيكل الذي سيشرف على «المرفق القضائي».
قبل الدخول في التبعات المحتلمة لهذه الخطوة التي وصفها بعضهم باليوم الأسود للقضاء التونسي، لنتوقف قليلا عند دواعي رئيس الدولة لدخول في هذه المغامرة الجديدة.

لا يقرّ الرئيس قيس سعيد بما تضمنه الفصل 102 من دستور 2014 الذي ينص صراحة على أن «القضاء سلطة مستقلة تضمن إقامة العدل، وعلوية الدستور وسيادة القانون، وحماية الحقوق والحريات» إذ يعتبر أن القضاء وظيفة وليس سلطة،ومن مستوجبات السلطة المستقلة للقضاء (وليس للمجلس الأعلى للقضاء ) ألا تتحكم السلطة التنفيذية ،أي وزارة العدل،في المسار المهني للقاضي (ة) من حيث النقلة والترقية والتأديب بالإيقاف عن العمل أو العزل أو الإعفاء إلا في حالات معينة «وطبق الضمانات التي يضبطها القانون، وبموجب قرار معلل من المجلس الأعلى للقضاء» (من الفصل 107 للدستور)..
وبما أن المجلس الأعلى للقضاء هو المكلف وفق الفصل 114 بضمان «حسن سير القضاء واحترام استقلاله» وان المجلس مستقل ومنتخب من قبل جملة من المهن المرتبطة بمرفق العدالة (33 منتخب من أصل 45 عضوا) بالإضافة إلى اثني عشر عضوا من كبار القضاة في المجالس القضائية الثلاثة العدلي والإداري والمالي معينين بصفتهم تلك يكون من العسير جدّا التدخل المباشر في القضاء عبر بوابة التأثير الإداري على المسارات المهنية للقضاة..

هذه هي الهندسة التي يريد رئيس الجمهورية تقويضها لأنها تسمح – حسب رأيه – بتسلل السياسة والفساد إلى الجسم القضائي (عبر الانتخاب ؟ !) ولا تمكن السلطة من الإصلاح ومن «تطهير القضاء» إذ يعيقها عن ذلك المجلس الأعلى للقضاء المتحكم الوحيد في المسار المهني للقضاة ..
لاشك أن التبرير الأساسي للخطوة الرئاسية يكمن في استشراء الفساد في القضاء وفي عجز المجلس الأعلى للقضاء عن الإصلاح أي عن المحاربة الجدية للفساد السياسي والمالي بل في تواطئه مع هذه المنظومة التي حكمت البلاد منذ عقود ولم تفعل «عشرية الخراب» سوى تغيير الأسماء والمستفيدين ليس إلا ..
يجمع الكل في تونس - عن حسن أو عن سوء نية – على ضرورة إصلاح القضاء ، ولكن هل يعني هذا أن بقية مكونات المجتمع سليمة ؟ ألا تحتاج بلادنا كلها بكامل منظوماتها المهنية والمادية وغير المادية إلى إصلاح عميق ؟ فهل يكون الحل بحلّ كل هذه المنظومات وكل هذه الأجسام المهنية ؟
إن كل الذين يعتقدون أن حلّ مؤسسات الدولة والمجتمع بدعوى أنها منخورة بالفساد إنما يعطون صكا على بياض لإرادة فردية هي الآن بصدد التخلص التدريجي من كل الهياكل التي تحدّ من نفوذها ومن تمددها .

ثمة مسألة لا ينبغي أن نغفل عنها وهي مرسوم الصلح الجزائي الذي يمثل أحد أهم مقومات المشروع الرئاسي وهو يفترض وجود قطب قضائي للصلح الجزائي يعين قضاته رئيس الجمهورية .. قطب لا يخضع للمجلس الأعلى للقضاء وقد عبّر هذا الأخير منذ أسابيع عن رفضه الشكلي لهذا المشروع ،كذلك عن رفضه لمضمونه ويبدو أن هذه النقطة هي التي أفاضت الكأس وعجلت بقرار الرئيس وكانت الذكرى التاسعة لاغتيال الشهيد شكري بلعيد مناسبة ملائمة له ..

«الحرب» التي أعلنها رئيس الدولة على المجلس الأعلى للقضاء لم تنته بعد بل لعلّها في بداياتها إذ يملك القضاة من «الأسلحة» ما لا تملكه الهيئات الأخرى كمجلس نواب الشعب أو هيئة مكافحة الفساد في الماضي القريب وكبقية الهيئات الأخرى في قادم الأيام.. القضاة ممسكون بشرايين مهمة في حياة عموم التونسيين كأفراد ومؤسسات وهياكل.. إذ تعرض على أنظار العدالة حوالي ثلاثة ملايين ونصف مليون قضية سنويا ..

هنالك اختبار هام سيقع في هذه الأيام القليلة القادمة في معرفة مدى صمود القضاة وتضامنهم مع بعضم ولكن الاختبار الأهم سيكون للتونسيين بأسرهم مواطنون وجمعيات ومنظمات وأحزاب والسؤال الأهم للجميع هو: هل سنبني تونس جديدة أفضل معا أم سنواصل في حرب الكل ضدّ الكل ؟
ذلك هو السؤال.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115