لكن ومع مرور الشهور سجلّ الحقوقيون ارتفاع عدد الانتهاكات التي شملت الصحفيين وبعض المسؤولين السياسيين السابقين ورجال الأعمال والنشطاء والمدوّنين على صفحات «الفايسبوك» وآخرهم مريم البريبري فضلا عن الناشطين المدافعين عن حقوق «الأقليات» كالاعتداء على رئيس جمعية «دمج». ولم يتوقّف الأمر عند متابعة المنظمات والجمعيات والرابطات التونسية (النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين، «جمعية مناهضة التعذيب» والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية..) لهذا الموضوع وانتقادها للتراجع والتضييق على الحريات إذ نقلت مختلف وسائل الإعلام العربية والغربية أخبارا تؤكّد التحولات الجديدة، وتثير في الوقت ذاته، «قلق» و«مخاوف» المتابعين لمسار الحقوق والحريات في تونس. وهو ما حدا بالمتحدث باسم الخارجية الأمريكية «نيد برايس» إلى التصريح بأنّ الحكومة الأمريكية «قلقة وأن لها خيبة أمل حيال التقارير الأخيرة من تونس التي تتعلق بحرية الصحافة والتعبير واستخدام المحاكم العسكرية للتحقيق في قضايا مدنية» مضيفا «أنّه من الهام أن تلتزم الحكومة التونسية بتعهداتها باحترام حقوق الإنسان مثلما ينصّ على ذلك الدستور التونسي وتم التأكيد عليه في المرسوم الرئاسي 117».
بقطع النظر عن المواقف الصادرة عن الجهات الأجنبية فإنّ الناظر في طبيعة هذه الاعتداءات ينتبه إلى أنّ أغلبها متعلّق بحريّة التعبير، وأنّ مرتكبيها متعدّدون (قوات الأمن –السلط العمومية– المناصرون لقرارات رئيس الجمهورية أثناء الاحتجاجات...) وأنّها قد مورست في الواقع وفي الفضاء الافتراضي. أمّا سرعة المحاكمات فالظاهر أنّها ذات صلة بفاعلين أضحوا مهدّدين لمسار الحقوق والحريات كالرئاسة والنقابات الأمنية أو المجموعات المؤازرة للرئيس وغيرهم. وقد اعتبر عدد من الناشطين أنّ السياسات الجديدة تستهدف «غير المنضبطين» والمعارضين على غرار ما تعرّض له الرئيس الأسبق منصف المرزوقي بعد إدلائه بتصريحات صحفية ومحاكمته على هذا الأساس ومعنى ذلك أنّ التضييق على الحريات ذو بعد سياسيّ بالدرجة الأولى، حتى وإن كان يشي بتمركز الدولة الأبوية التي تعتبر أنّ من حقّها إعادة بناء المشهد العامّ وإعادة ضبط 'أبنائها' المارقين الذين يسيؤن فهم الحريات.
لاشكّ أنّ حالة التراجع الديمقراطي والتراجع في مجال حماية الحقوق والحريات معمّمة في الفضاء المغاربي، لكنّ ما يثير المخاوف ما سيترتب عن هذا التوجّه من نتائج أوّلها التشكيك في قيمة النضال من أجل انتزاع الحقوق والتراكمات الحاصلة والوعي الذي ترسّخ لدى مختلف التونسيين، وثانيها متصل بضرب قاعدة «دولة القانون والمؤسسات» التي ترتكز على الشفافية والحق في النفاذ إلى المعلومة، واحترام الحريات... في العمق، فضلا عن ضرب حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر التي نصّ عليها الدستور، وثالثها عدم احترام قرينة البراءة والحق في المحاكمة العادلة ، دون أن ننسى ترسيخ الإفلات من العقاب وتفشي الإحساس بالظلم وانعدام العدالة.
لاشكّ أنّ التغاضي عن الانتهاكات يهدّد استقرار المجتمع ويغمط حقّ المواطنين/نات في الاستمتاع بحقوقهم وينذر بتهاوي ما يشكّل عمود الديمقراطية في تونس، ولذا تكثفت الندوات والمؤتمرات التي تناقش الانزياح عن مسار حماية الحقوق والحريات. فهل أنّ هذه التحركات تمهّد لتكوين جبهة موسعة للدفاع عن الحقوق والحريات والتصدي لأية انتهاكات جديدة؟ وهل هي بداية اهتمام مكونات المجتمع المدني بوضع استراتيجية تستشرف أفق القادم فتعمل على سد منافذ رياح النسف؟
ولعلّنا لا نبالغ إذا اعتبرنا أنّ المبادرات التي أطلقتها عدّة جمعيات علامة تميّز بين نشاط الأحزاب التي ركزت تحركها وأجندتها الخاصة على الأهداف السياسية وإعادة التموقع و«استرجاع السلطة» فكان ملفّ الحريات شعارا يوظّف لاستمالة الحقوقيين، وبين الجمعيات والرابطات والمنظمات التي ترى أنّها اكتسبت شرعيّة وجودها من خلال دفاعها المستميت ونضالها في سبيل ترسيخ مناخ تعزّز فيه الحقوق والحريات، وعلى هذا الأساس فإنّها تستمرّ في عملها الدؤوب بعيدا عن الحسابات السياسوية.