دعوته للقضاة الشرفاء والنزهاء بألاّ يترددوا في تطبيق القانون على الجميع كما جاء ذلك في عرضه لجدول أعمال مجلس الوزراء يوم 28 أكتوبر 2021 . إذ يبدو أن هذه الدعوات أخذت كصك على بياض في العديد من الأعمال القضائية للتدليل على الانخراط في ما يقع السعي إليه بشيء من المغالاة مع التسابق المشوب بالخوف للتدليل على مساندة الرئيس . والخشية أن يكون الإذن لوزيرة العدل بإعداد مشروع يتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء في المجلس الوزاري الأخير ، أن يضاعف في إبراز مظاهر الولاء في الأوساط القضائية (التزلف)، في تصرفات ومزايدات قضائية ، على حساب سلامة تطبيق القانون و حسن القضاء . و قد حصل هذا بمناسبة إعفاء عدد من القضاة دون إحترام أي إجراء بدعوى مقاومة الفساد ،فهرول الكثيرون إلى مخفر السلامة و الولاء لتتشكل منظومة جديدة تتصرف تحت إمرة منظومة العشرية الماضية الّتي لا تزال دائمة الحضور إلى اليوم. و الخشية أيضا ، أن يستغل المحسوبون على المنظومة القديمة في الجهاز القضائي الصدئ، فيقومون بتصرفات في ظاهرها ولاء و في باطنها ، تجاوزات للسلطة لتعفين الأوضاع لتوسيع رقعة معارضة رئيس الجمهورية في توجهاته ،و هي فنيات جديدة قديمة لا تغيب على أحد .
إن ما شهدته البلاد في المدّة الأخيرة من إيقافات و مداهمات للتفتيش ، تخللتها تجاوزات و إخلالات ،تبدو مفتعلة ، تُبرز مظهرا للتشفي، أكثر من إبرازها للحرص على تطبيق القانون. وهو ما يتردّد صداه لدى العامة والخاصة ، مما ينجم عنه تولد الشعور بأن تونس بصدد الدخول في مرحلة تصفية حسابات موجّهة و تصرفات مستبدة ، فتكون النتيجة عكس الغاية بحيث تكثر المظالم و تتكرر مساعي إصلاحها في مناخ لا يوفر الثقة و يضاعف الريبة.
هذا ما لمسناه في العديد من الإيقافات التي تلاها الإفراج، والحجوزات التي تلاها رفع الحجز، و رغم إرجاع الأمور إلى نصابها في بعض الحالات ، فإن آثار الإيقاف بالسجن ولو ليوم واحد لا تمّحي آثاره للمشبوه فيه ولعائلته و أصدقائه ،مع تبعات التشهير والتنفير لدى عامة الناس، فضلا عن المخلفات و الخسائر بالنسبة لأصحاب المؤسسات، وعمّا تولّده الوضعيات من تدخلات و معاملات قد لا تخلو من فساد. بذلك تحصل الإساءة بدل الإفادة .
في أكثر من مناسبة أكدنا أن الإيقاف التحفظي كما تدل عليه تسميته ، تدبير تحفظي يُتّخذ ُفي حالات إستثنائية محدّدة في قانون الإجراءات الجزائية تستلزم الإيقاف كضرورة تلافي اقتراف جرائم جديدة أو ضمانا لتنفيذ العقوبة أو ثبوت التلبّس في اقتراف جريمة خطيرة . هذا الإجراء وسيلة خطيرة ، تتقيد بها قلة نزيهة ، و يسيء استعمالها ناقصو الكفاءة خوفا من الخطأ ،و قليلي المعرفة لعدم إلمامهم بترسانة الإجراءات والقوانين ، وعديمي الجرأة و الشجاعة في اتخاذ القرار خوفا من الشارع أو من السلطة، و كذلك المتعطشون لممارسة النفوذ لإشباع نزعة التسلط فيهم ، أو الممسوكون من «أنوفهم» بسبب مساومات تورطهم في ملفات فساد و رشوة . هذه الفئة الأخيرة هي وراء الإجراءات الخاطئة و التدابير التعسفية ، و هي فئة تتخفّى بضمانات التقاضي على درجات و بترسانة من التبريرات النظرية، لتجنب المحاسبة عمّا إختاروا إنتهاجه بإرادة أو بخطإ منهم ، و ذلك لتجنب محاسبتهم والتفصي من المسؤولية ، و هو توجه خاطئ لأن القاضي الّذي تسبب بخطئه أو بتقصيره أو بتعمّده ، في سلب حرية أي فرد و في الإضرار بالحقوق ، يجب أن يحاسب إذا ثبت تعسفه أو تجاوزه . و هذه المحاسبة يجب أن تكون متناسبة مع ما حصل للمتضرر بسبب التدبير أو الفعل الضار. فالإفلات من العقاب هو المشجع على التمادي في الأخطاء الضارة أو في التعسف ،و هو ما يعيدنا إلى ضرورة تفعيل نصوص مؤاخذة الحكم في هذا الباب وذلك تأديبيا و كدنيا و جزائيا .
فإتخاذ قرار الإيقاف في غير جرائم الإرهاب و تهديد أمن الدولة أو استهداف سلامة المؤسّسات و أرواح الأشخاص ، لا يستساغ و لا يحبّذه أحد ، خاصّة إذا تعلّق الأمر بشأن مالي تكمن إجراءات البحث في عمليات محاسبة و تثبت موثقة أو مخزنة إلكترونيا أو بأي شأن آخر يكون فيه الصلح ممكنا، ولا تكون فيه المضرّة محقّقة . فإذا كان رجال القانون يبحثون عن سبل تجنّب العقوبات السالبة للحرية قدر الإمكان ، فإنهم لا يجدون أي مبرّر للإسراع في إتخاذ قرار سالب للحرية ، لا يتعلّق بالجرائم الخطرة .
إن الإصلاح القضائي الّذي نصبو إليه ، كما سبق أن أشرنا إلى ذلك في أكثر من مناسبة ، لا يتوقف على تغيير هيكل ما و لا على تعديل تشريع فقط ، بل ان ذلك يتطلب قبل كل شيء تشبّع المشرعين بقيم الحق والعدالة و الحرية و الإنصاف، ومؤسّسة قضائية قوية وإعتمادات و قدرات مالية كبيرة وزاد بشري مؤهل كما يجب و إرادة سياسية صادقة لإحداث ثورة في المنظومة القضائية المهترئة، و إدارة قضائية ناجعة و قضاة و محامين ومساعدي قضاء متشبعين بقيم العدل والعدالة و متخصصين في كل المجالات لذلك لا أتحمّس كثيرا لدعوات تنقيح القوانين دون توفير الإعتمادات الكافية، و دون الإعداد المسبق للبنية التحتية ودون توفير إمكانيات حقيقية لتنفيذ القوانين وإحترام ما تم ّ تشريعه بكل حرفية و نجاعة ،و دون توفير الزاد البشري والتكنولوجي وتأهيله مسبقا لإستعاب التشريعات و تمكينه من آليات تنفيذها . والدليل على ذلك أن القوانين المطبقة اليوم لا تُحترم و لا تُطبّق وحريات مئات و ربّما آلاف الأفراد منتهكة باسم القانون والعديد من الحقوق في مهب الريح .
في باب إصلاح القضاء: إنفاذ القانون، لا التعسف في تطبيقه...
- بقلم المنجي الغريبي
- 10:16 01/11/2021
- 1085 عدد المشاهدات
أتمنى أن يكون الانطباع بأن أوضاع القضاء تزداد سوءا خاطئا رغم الدعوات المتكرّرة لرئيس الجمهورية بـ«تطهير» البلاد، و آخرها