إلى حدّ اليوم أن تسيير الدولة هو بالأساس شأن سياسوي ،وأن السياسة مسألة منفصلة تماما عن الاقتصادي اليومي والفعلي وأن الاقتصاد الوحيد الجدير باهتمام السياسة هو «منوال التنمية» والاختيارات الإيديولوجية المتخفية وراء هذا الشعار الجميل ..وكانت النتيجة أن أضعنا على بلادنا فرصة نمو يحد من البطالة ويحسن ظروف حياة الناس ..
عندما نرى أن خطاب رئيس السلطة التنفيذية – بفعل الأمر الواقع – يوم الاثنين الماضي في سيدي بوزيد لم يتضمن ولو تلميحا بسيطا الى المسألة الاقتصادية على امتداد حوالي 45 دقيقة ندرك حجم الهوة والقطيعة بين الاقتصادي كجوهر الحياة المعيشة للناس وبين السياسي كصراع على السلطة والسعي لإفتكاكها أو لاقتسامها .
ماذا نقصد بالاقتصادي هنا ؟
الاقتصادي هنا هو جملة النشاطات الفردية والجماعية التي تقوم بها الدول والمؤسسات العمومية والخاصة والأفراد في القطاعين المنظم وغير المنظم والتي تسهم كلّها في خلق ثروة ما، وهي أيضا كل الخدمات الإدارية التي تسمح للمواطنين بممارسة نشاط اقتصادي ما بدءا من استخراج مضمون ولادة إلى تسجيل عقار أو تسليم نسخة مطابقة للأصل أو تعريف بالإمضاء، وأن جودة مجمل هذه الخدمات من جودة الاقتصاد والعكس بالعكس، والاقتصاد أيضا هو كل القرارات الإدارية والأحكام القضائية حتى عندما تتعلق بالحياة الفردية لأنها كلها ستسهم بدرجات متفاوتة في خلق ثروة أو في اتلافها ..
والاقتصاد هو نشاط مئات الآلاف من المؤسسات انطلاقا من مختلف النشطات الفردية إلى كبريات المجاميع المعولمة والتي تمتد أسواقها ومصانعها من آسيا إلى الأمريكيتين مرورا بأوروبا .
كل هذا النسيج المعقد والمتداخل هو الطريقة التي تعيش بها البلاد ويرتزق منها مباشرة حوالي ثلاثة ملايين ونصف تونسية وتونسي وهذا كله يحتاج إلى مناخ سياسي ونفسي وقانوني لتنمية الفرص وتذليل العقبات والرفع التدريجي والمستمر في القيمة المضافة لكل السلع والخدمات ..
مرة أخرى ما الذي يفسر القطيعة شبه التامة بين الاقتصادي والسياسي ؟
مسائل عديدة تفسر هذه الفجوة المخيفة من بينها غياب الكفاءة عند العديدين ممن تولوا تسيير الدولة خلال هذا العقد نضيف إليها الضعف الفادح للثقافة الاقتصادية وتعويضها بتهويمات إيديولوجية فجة حول ضرورة تغيير المنوال التنموي دون فهم هذا المفهوم ومقتضياته من إصلاحات عميقة للمنظومتين التربوية والتكوينية وتأهيل جذري للمؤسسات الاقتصادية والدور الاقتصادي الاستراتيجي للدولة لا على مستوى امتلاك وسائل الإنتاج فقط بل في إعداد البلاد لعالم الغد بصعوباته وفرصه الجديدة..والإشكال في بلادنا أن هذه الطبقة الحاكمة الجاهلة بأبجديات النشاط الاقتصادي الفعلي لديها غرور غريب فهي لا تريد التعرف على حقيقة أوضاع المؤسسة الاقتصادية بمختلف أصنافها وميادين اشتغالها ثم هي لا تحيط نفسها بكفاءات
ذات اقتدار مرتفع وتفضل الشعارات العامة والشعبوية كما أنها لا تعير لزمن النشاط الاقتصادي أية أهمية هذا إن لم تتهم الاقتصاد بشكل مبهم بأنه مصدر الفساد والأموال المنهوبة والعلاقات المشبوهة.
لقد دفعنا ثمنا باهضا لهذه المراهقة السياسية على امتداد جل فترات العشرية الماضية وتفيد كل المؤشرات إلى أنت الوضع سيزداد خطورة خلال الأسابيع والأشهر القادمة.
مشكلة تونس الأولى والأخيرة تكمن في ضعف العقلانية الصارمة في تسيير شؤون الدولة وفي النزوع المتفاقم نحو شعبوية خلابة لا تملك رؤية ولا حلولا لمشاكل البلاد والعباد.