بين طريقة إدارة البلاد وبناء العلاقات والممارسات السائدة وسلّم ترتيب الأولويات وكلّ ما كان معمولا به قبل هذا التاريخ وبين ما سيأتي بعده. وليس ترسيم الحدود في العمل السياسي إلاّ إعادة نظر في الولاءات والنخب المقرّبة وفي العلاقات السياسية والدور الذي يمكن أن يسند إلى هذه المؤسسة أو تلك وإعادة تموقع لتونس في المشهد الجيوسياسي فضلا عن بناء صورة جديدة للحاكم تختلف عن صور الرؤساء الذين تولّوا الحكم. ولا يختلف إثنان في أنّ الرئيس «سعيّد» قد راهن على تغيير مجموعة من التمثّلات الخاصّة برئيس الجمهورية والقانون والأحزاب والمؤسسات وعلى رأسها مجلس الشعب ...وروّج لصورة «الحاكم العادل» الذي يسهر على خدمة «الرعية» ويصطف إلى جانب «المستضعفين في الأرض»، وهي صورة تعكس تمثّله لشخصية ‹عمر بن الخطاب› وتكاد تتماهى مع شخصيّة «المخلّص» و«المنقذ من الضلال» الذي سينطلق في حلّ مشاكل التونسيين وتحسين ظروف عيشهم. فهل هي الرغبة في التمايز عن الآخرين ودخول التاريخ من باب «الاختلاف» «الاستثناء» و»الفرادة›› و»الغريب والعجيب»؟
وضمن هذا المسار الجديد والمختلف الذي أكّد فيه «سعيّد» على القطع مع المتعارف عليه والمعتاد والسائد والمعمول به،... كان من المتوقّع أن يظهر الجهاز الأمني في صورة مختلفة وأن يؤدي دوره المأمول حتى يكون «أمنا جمهوريا» و»أمنا مواطنيا› ولِم لا أمنا في خدمة القيم التي ناضل من أجلها عدد من الفاعلين والفاعلات وطالبوا بها: ضمان الحريات وتحقيق المساواة بين الجميع والعدالة الاجتماعية و... ولكن ها أنّ الحديث عن «الدولة البوليسية» و«القمع البوليسي» يعود بعد هدنة قصيرة المدى، وها أنّ الذاكرة تسترجع ما جرى في احتجاجات جانفي 2021 من انتهاكات وممارسات تثبت عسر ضبط النفس وغياب المهنية وميل أغلب الأمنيين إلى البطش والتسلّط والهيمنة. وها أنّ المخاوف من تشكلّ الاستبداد تستبد بالناس.
وبقطع النظر عن أسباب التعاطي الأمني العنيف مع المحتجين/ات في مسيرة 1 سبتمبر والإعلاميين/ات، ومبرّرات الإفراط في استعمال القوّة و«السرديات» التي صيغت حول نوايا المحتجّين/ات ومنطق المؤامرة والدسائس، وبصرف النظر عن تضارب الروايات فإنّ ما يلفت الانتباه هو انزياح الجهاز الأمني منذ 2020عن مسار الإصلاح الذي اُهدرت فيه أموال كثيرة، من أجل بناء الثقة مع الشعب على قاعدة جديدة تنسف تاريخا من الكره والمقت والعداء المتبادل أفرز على امتداد السنوات، لغة خاصّة تحتلّ فيها النعوت والصفات والاستعارات منزلة هامّة. فكانت صورة الشرطي متماهية مع كلّ رموز الشرّ، وكان الصراع بين المراهقين والشبّان على وجه الخصوص، على أكثر من واجهة لعلّ أهمّها واجهة احتلال الفضاء العامّ وإقصاء أصحاب الأجساد غير المنصاعة وغير المنضبطين عن الحضور فيه باعتبارهم يبثون الفوضى وينفلتون عن الرقابة ويخالفون المعايير وقيم الطاعة والخضوع... وفي المقابل يتمسّك الشبّان بحقّهم في الحضور والفعل وامتلاك الفضاء العامّ . أمّا الواجهة الثانية فتتمثل في التنازع من أجل بناء الرجولة. فما البطش وعرض القوّة البدنية والإمعان في ممارسة الإذلال والتشفّي والتعذيب واستعمال اللغة النابية بما هي آلية لفرض السلطة، إلاّ معركة تفرض فيها الذكورة المهيمنة قواعدها في التعامل مع الآخرين دفاعا عن موقعها وامتيازاتها و›هيبتها».
ولعلّ السؤال الذي يفرض نفسه بعد تفعيل الذاكرة وهذا النكوص المعاين: كيف سيتفاعل «الحاكم العادل» مع هذه التحديات الجديدة:
1 - تقييم أداء المؤسسة الأمنية وفرض هيكلة جديدة ومشروع إصلاح فعليّ.
2 - التفاعل مع الشباب/ات باعتبارهم يمثلون طاقة يمكن التعويل عليها في عمليّة التغيير والبناء، لا مجرّد خزّان انتخابيّ.
3 - مطالب احترام الحريات بما فيها حرية التعبير والتظاهر
4 - ترتيب علاقة جديدة مع الإعلام بعيدا عن منطق الـتأديب؟