وعشقهم وتراجع ولعهم بالنضال السياسي ؟ ما أسباب تراجع الأحزاب السياسية الحديثة؟ وما أسباب تراجع تأثيرها في المجتمعات الديمقراطية ؟ لِمَ عرفت المنظمات الاجتماعية والنقابات ومنظمات المجتمع تهميشا كبيرا في مجتمعاتنا المعاصرة لتصبح تنظيمات قليلة التأثير ومحدودة الفعل السياسي والاجتماعي؟
تشغل هذه الأسئلة الخارقة والملحة آراء المفكرين والمنظرين في الفكر السياسي والاجتماعي في أغلب بلدان العالم .كما تنكب الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والناشطون السياسيون على فهم أسباب تراجع تأثيرهم في المجتمعات الحديثة وابتعاد الناس عن هياكلهم ومؤسساتهم .
وتشكل أزمة السياسة هاجسا كبيرا في اغلب المجتمعات لعديد الأسباب .أول هذه الأسباب أن السياسة والفعل الاجتماعي يشكلان جوهر التغيير الاجتماعي في المجتمعات الحديثة والأداة التي تمكن شعوبها من أن ترنو إلى الأفضل .فالفعل السياسي يشكل قاعدة المشروعية في المجتمعات الحديثة مقارنة بالمجتمع التقليدية حيث يبقى حلم التغيير بيد القوى الإلاهية .
أما السبب الثاني الذي يجعل أزمة السياسة تؤرق تفكيرنا وفعلنا اليومي فيهم انعكاساتها على مجتمعاتنا وبصفة خاصة على الحلم الديمقراطي اليوم .
فقد انعكست أزمة السياسة سلبا على الأنظمة الديمقراطية وجعلت هذه الأنظمة وبصفة خاصة الديمقراطية التمثيلية محل نقد وتساؤل .
وكانت أزمة النظام الديمقراطي والتمثيلية وراء صعود الحركات الشعبوية التي وجهت سهام نقدها للنخب واتهمتها بخيانة الشعب الواسع وابتعادها عن آماله وأحلامه .
ومن أسباب انشغال المفكرين والناشطين السياسيين بأزمة السياسة عدم اقتصارها على البلدان المتقدمة بل امتداداها للبلدان النامية وخاصة البلدان التي ولجت المجال الديمقراطي حديثا بعد ثورات الربيع العربي مثل بلادنا .فالعرس الديمقراطي لم يعمر طويلا في هذه البلدان لتعرف بدورها صعوبات وتحديات أزمة المشروع الديمقراطي وفقدان الثقة في العمل السياسي المنظم .
وقد حاول عديد المفكرين فهم الأسباب العميقة لأزمة السياسة وتخلي الناس عن العمل السياسي المنظم والأحزاب السياسية لتغيير واقعهم نحو الأفضل .
• في أسباب تراجع السياسي
عرف مجال التفكير السياسي عديد المحاولات لفهم الأسباب العميقة لتراجع السياسي وعجزه في السنوات الأخيرة .
ومن بين هذه القراءات يمكن أن نشير إلى العولمة وتراجع دور الدولة الوطنية .فلئن ساهمت العولمة في تطور مجال القرار الاقتصادي والسياسي ليتجاوز مجال الحدود الوطنية فإن السياسي بقي مقتصرا ومنحصرا في هذه الحدود.وساهم هذا التباين بين المجالين في تراجع السياسة وتراجع ثقة الناس في قدرتها على تغيير الواقع باعتبار أن أهم القرارات التي تؤثر في اختياراتهم وحياتهم اليومية يتم أخذها بعيدا عن المجال السياسي الوطني .
ومن جملة هذه القراءات يمكن أن نشير – كذلك- إلى المفكرين الذين يضعون الإصبع على أزمة السياسة كجزء من أزمة عامة وشاملة لمشروع الحداثة الفكرية والسياسية وللإيمان الذي زرعته لقرون بقدرة الإنسان على الفعل وعلى التغيير الاجتماعي .
وقد ساهمت نظريات ما بعد الحداثة في نقده هذا الإرث الفكري وأكدت على دخول الإنسانية في مرحلة تاريخية تنتفي فيها المشاريع السياسية الكبرى والرؤى الشاملة لتفسح المجال للتجارب السياسية الصغيرة والفردية .وقد ساهمت هذه النظريات والنقد الممنهج للرؤى الشاملة في تراجع السياسة وأزمتها .
قدمت هذه القراءات والتحاليل في بناء تصور وقراءة لأزمة السياسة وتراجعها .وسيضيف المفكر الفرنسي الكبير بيار روزنفالون Pierre Rosanvallon قراءة جديدة لازمة السياسة والعمل السياسي الديمقراطي في كتابه المهم والذي صدر في هذا الأسبوع عن دار النشر الباريسية le seuil تحت عنوان «les épreuves de la vie» أو «صعوبات الحياة» .
• روزنفالون والمشاعر الجياشة والشعبوية
يعتبر بيار روزنالقون من أهم المفكرين المؤثرين في الساحة الفكرية والسياسية في فرنسا بعد غياب أهم المفكرين الذين شكلوا مدرسة فكرية كبيرة كان لها تأثير كبير على المستوى العالمي .وتأتي أهمية بيار روزنالفون من مسألتين هامتين .الأولى فكرية بسبب غزارة إنتاجه الفكري منذ سنوات طويلة .فقد أصدر عددا كبيرا من الدراسات والكتب المهمة في أهم القضايا الحارقة والتي تهم أزمة الديمقراطية ومستقبل المشروع الديمقراطي.
ولم يكتف بإصدار كتبه ونشر أفكاره بل ساهم كذلك مساهمة كبيرة في خلق ديناميكية من خلال المنتديات الفكرية التي خلقها والتي نجح في أن يجمّع حولها أهم المفكرين الشباب في فرنسا .كما اصدر عديد المجلات ونشر كتب الأجيال الجديدة من المفكرين للتعريف بهم وتقديمهم للقارئ.
كما أن أهمية المفكر بيار روزنفالون تكمن في كونه ربط التفكير بالممارسة السياسية والاجتماعية حيث كان ناشطا وفاعلا في الكثير من الجمعيات كالنقابات والأحزاب السياسية اليسارية الوسطية كالحزب الاشتراكي وكان المفكر الذي اثر كثيرا في مواقف السياسي الفرنسي ميشال روكار Michel Rocard وساهم في تطوير أفكاره وآرائه الإصلاحية.
وقد شكل الكتاب الجديد الذي صدر في هذا الأسبوع تحت عنوان «les épreuves de la vie» أو «مصاعب الحياة» إضافة جديدة وهامة في قراءة وتحليل المشهد السياسي في المجتمعات الديمقراطية .ويؤكد الكاتب في هذه المساهمة الهامة على أن المخيال السياسي في المجتمعات الديمقراطي لم يعد مرتبط بالقضايا الاجتماعية وبالصراع الطبقي كما دافعت عليه الأحزاب الشيوعية لسنوات طويلة بل دخل في مرحلة جديدة وأصبح مرتبطا بمصاعب وجروح الحياة اليومية للناس وانكساراتهم وخفوت أمالاهم وأحلامهم .
ويقدم لنا الكاتب فكرة عن أهم المصاعب والماسي التي تشكل أساس التجربة الذاتية وتنحت الممارسة السياسية في المجتمعات الديمقراطية .والجانب الأول في هذه المصاعب وسير الحياة يهم تجربة الذات والمصاعب التي يعيشها الفرد في مجابهة الحياة اليومية وتحدياتها من شغل وتهميش شخصي وعائلي.ثم يضيف الكاتب لهذه المصاعب الشخصية تلك المرتبطة بالرابط الجمعي والمشترك الجماعي وخاصة جوانب الإجحاف والظلم التي تعتريها والتي تلعب دورا مهما في نمو مواقف السخط والرفض في المجتمعات الديمقراطية ويضيف إلى هذه المصاعب مصاعب أخرى مرتبطة بالضبابية وعدم اليقين عند الناس والذي يتحول إلى خوف من المستقبل ورفض محاولات التغيير والتحولات الكبرى .
ويشير روزنفالون إلى أن هذه المصاعب ومآسي الحياة اليومية وراء تشكيل مجموعات عواطف «communauté d’émotions» ومجموعات سخط «communauté d’indignation» والتي تساهم في ظهور ممارسة سياسية جديدة تعتمد على رفض الازدراء والإجحاف والظلم الذي تعيشه من طرف النخب والطبقات الحاكمة .وهكذا يعقد الرابط الاجتماعي والاضطهاد والتهميش قدرتهم على التعبئة السياسية في المجتمعات الديمقراطية ليصبح رفض الازدراء والتمييز وقود الممارسة السياسية .
ولهذا التطور نتيجتان هامتان .الأولى تكمن في تراجع الأحزاب الديمقراطية والتي بنت رؤاها على الأسس الاجتماعية والتغيير الاجتماعي .أما المسألة الثانية فهي ان التحول في اسبب العمل السياسي ودخول مرحلة العواصف الجياشة كعنصر أساسي فتح الباب واسعا للحركات الشعبوية والتي بنت خطابها السياسي على الأحاسيس والسخط والرفض للإجحاف والظلم .
بالرغم من أنه لم تمض على نشر كتاب بيار روزنقالون إلا أيام قليلة الا أثار الكثير من الاهتمام والنقاش وحتى الجدل باعتبار انه طرح مسائل أساسية وجوهرية تهم مستقبل النظام الديمقراطي لا فقط في البلدان المتقدمة فقط بل كذلك في بلداننا .
وفي رأيي فإن إعادة بناء المشروع الديمقراطي وإعادة سحر السياسة لابد أن يأخذ بعين الاعتبار الجانب الاجتماعي من خلال إعادة بناء العقد الاجتماعي .إلا انه لابد له في نفس الوقت من القطع مع سياسات الازدراء والإجحاف والظلم التي مارستها النخب ومواقف الاستعلاء أمام الآخر .