ودلالة تجربة الإسلاميين في الحكم، ونجاعة المقاربة القانونية التي أثبتت مرّة أخرى، أنّ صياغة الدستور والتشريعات الرياديّة غير كافية لإدارة المرحلة. فقد تبيّن التونسيون اليوم، أنّ الفجوة بين المواد الواردة في الدستور والتشريعات التي صيغت خلال هذه السنوات تتسع يوما بعد آخر، وأنّ السياسيات التي تدّعي كلّ حكومة أنّها أحكمت صياغتها غير قابلة للتنفيذ أو معطلّة «بفعل فاعل»، وهو ما يجعل طرح سؤال الإرادة السياسيّة ضروريّا.فماذا يعني غياب الإرادة السياسية؟ وماذا يعني أن تتوفّر الإرادة السياسية؟
إنّ الإرادة بما هي تصميم على الفعل وجرأة على اتخاذ القرار في الوقت المناسب، وتمسّك بالاستقلالية في الرأي دون الخضوع للوبيات الضغط ومحترفي الابتزاز أو التهديد هي التي تسمح للمسؤول السياسي بأن يحوّل ما جاء في النصوص القانونية من قيم معيارية ومبادئ كبرى إلى ممارسات في الواقع المعيش قادرة على تغيير العقليات والمواقف. فكلّما اقتنع المواطنون/ات بأنّ القانون يطبّق على الجميع بغض الطرف عن الموقع السياسي والانتماء الحزبي أو الطبقي أو الجهوي... ازداد احترامهم له وتمسّكهم بـ«دولة القانون» وبذلك يتحوّل القانون إلى ثقافة.
وكلّما احتكم المسؤول إلى روح الدستور ومبادئ التشريعات وكانت له إرادة حقيقية في الالتزام بتطبيق القانون على الجميع دون استثناء أجاد الحوكمة وحصّن نفسه واستعدّ لمواجهة المساءلة والمحاسبة. إنّ الإرادة الحرّة هي التي تجعل المسؤول سيّد نفسه وأكثر قدرة على الصمود أمام إغراء السلطة أو التهديدات لا يتوانى عن تحمّل تبعات قراراته فيقدم على اتخاذ قرار الاستقالة، في اللحظة الحاسمة، ويكون خروجه من السلطة مشرّفا فيزداد احترام الناس له ويكبرون فيه وقوفه ضدّ محاولات التلاعب بالقوانين والتحيّل والإفلات من القانون.
إنّ توفّر الوعي السياسي والإرادة السياسية هو الذي يسمح للسياسي بفهم «نبض الشارع» واستيعاب المطالب التي ترفعها الحركات الاجتماعية والمواءمة بين الإرادة السياسية والإرادة الشعبية. وكلّما أصرّ السياسي على إرادة فهم الأزمات والبحث عن الحلول استعيدت الثقة بين المواطنين/ات والسياسيين وأمكن الإصغاء والحوار خارج منطق الصدام وصراع الإرادات.
إنّ حصافة السياسي هي التي تجعله يجسد الإرادة المشتركة لا إرادة النخب وينأى بنفسه عن التورّط في ممارسات تمييزية تؤثر توفير اللقاح للوزراء والمسؤولين ومن هم في ركابهم على حساب المعوزين والمرضى، وهو ما يفسّر فرحة التونسيين يوم 8 أوت وقدرتهم على تجسيد التضامن الاجتماعي من خلال التطوّع والبذل والعطاء بعيدا عن حسابات «التسييس»، وهو ما يفسّر قدرة التونسيين على تحويل حدث «عادي» إلى حدث احتفاء بالحقّ في الحياة والحلم واستعادة الأمل. وحين تلتقي الإرادة السياسية والاستعداد للإصغاء إلى مطالب الناس «العاديين» والتصميم على كسب الرهانات في أقصر وقت ممكن يكون الفعل في الواقع ويحضر الأمل في إمكانية التغيير.
ولعلّ الدرس المستخلص أنّ الذين صوّروا لنا أنّ الواقع معقّد وأنّه لا إمكانية للإصلاح ولا موارد تسمح بالخروج من «السنوات العجاف»، والذين أوهمونا بأنّه يصعب مواجهة الموالين للإرادة الخارجية وأن لا حلّ إلاّ في الهدم قد كانوا مفتقرين للإرادة الحقيقية على الفعل في الواقع من أجل تغييره، ولم يثقوا يوما في قدرات التونسيين/ات ولم يستطيعوا تحويل «إذا الشعب يوما أراد الحياة» إلى مبدإ أساسي يوّجه الفعل السياسي فيجعل الإرادة السياسية تتوازى مع إرادة الشعب في نحت ملامح حياة كريمة تضمن فيها الدولة حقوق الجميع بقطع النظر عن مواقعهم وامتيازاتهم وانتماءاتهم.
وإذا كان من حقّ السياسي أن يحتفي بقدرته على فرض الإرادة السياسية، وتصميمه على تغيير الواقع وإعادة قيم التضامن الاجتماعي والتطوّع والمحبة ورعاية المسنين.. وتجسيد الإرادة المواطنية فإنّه ليس من حقّه أن ينساق وراء الرغبة في توظيف هذه الإرادة في كسب نقاط ضدّ الخصوم أو في الدعاية السياسية وليس من حقّه أيضا أن ينساق وراء الشعبوية فشتان بين الإرادة الشعبية المواطنية والإرادة السياسية المتكيفة مع الشعبوية.
الإرادة السياسية والإرادة المواطنية
- بقلم امال قرامي
- 12:01 12/08/2021
- 1107 عدد المشاهدات
لازلنا بصدد تحليل مقوّمات التدبير السياسي واستخلاص الدروس، وإثارة الأسئلة حول الديمقراطية و«المسار الانتقالي الديمقراطي» و«ما بعد الديمقراطية» والنظام البرلماني،