ثم يحصل ما لم يكن في حسبان أقرب المقربين من الشقين المتنازعين إلى حدّ التنافي ..وساطات ولقاءات بعضها في السرّ وبعضها في العلن ثم صفقات نسميها «توافقات» ولكن إذا تسربت المعطيات انبرى فريق على الأقل إلى التكذيب وتأكيد انه لا يمارس السياسة بالصفقات والمناورات بل فقط بالمبادئ والقيم ..
هكذا كان الحال في أوت 2013 وذلك اللقاء الباريسي الشهير الذي عرف بلقاء «الشيخين»: المغفور له الباجي قائد السبسي رئيس نداء تونس وراشد الغنوشي رئيس حركة النهضة ،إذ بينما كان أنصارهما يستعدان للحسم حتى في الشارع إن لزم الأمر نجدهما قد اتفقا على أساسيات التعامل بينهما،ولم ينفرط ،نسبيا، هذا العقد إلا في الدور الثاني لرئاسية 2014 ثم بعد تحالف رئيس الحكومة يوسف الشاهد مع حركة النهضة في 2018..
بقي راشد الغنوشي طرفا رئيسيا في الصراع ولكن هذه المرّة ضدّ خصمين أساسيين : رئيس الجمهورية قيس سعيد ورئيسة الحزب الدستوري الحرّ عبير موسي.. وتشير كل المعطيات الى أن رئيس الحركة الإسلامية مستعد لكل صفقة ممكنة شريطة الاعتراف به وبحزبه وبدوره في صياغة المشهدين السياسي والحكومي..
في الحقيقة كان يتم الإعداد لصفقة سابقة بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة بمباركة اتحاد الشغل على أساس التمرير الجزئي للتحوير الوزاري والعمل على تغيير جذري لا فقط للنظام السياسي ولكن لدستور البلاد بالعودة إلى دستور 1959 مع بعض التعديلات..
لقد أفسدت جملة واحدة هذه الخطة عندما انطلق رئيس الدولة أمام رئيس الحكومة الحالي ورؤساء حكومة سابقين في حماسة خطابية مفادها أن الحوار الوطني لـ2013 والذي اشرف عليه الرباعي الراعي للحوار بقيادة اتحاد الشغل واتحاد الأعراف – خاصة - أن هذا الحوار لم يكن حوارا ولم يكن وطنيا ..
هذا الخروج عن الخط يبين لوحده ضعف الثقافة السياسية لصاحب قرطاج إذ افسد بكلمتين اثنتين كل ما خطط له منذ أشهر عديدة، بل منذ استقالة حكومة الفخفاخ ..
والغريب أننا انتقلنا من مشروع صفقة أجهضته كلمتان إلى مشروع صفقة جديدة مع من كان يتوجه لهم الرئيس بصواريخه منذ الصائفة الفارطة .
ما الذي حصل حتى يلتقي رئيس الدولة برئيس النهضة ليعرض عليه صفقة جديدة ؟
الأكيد أن التفكير في هذا اللقاء أصبح مطروحا على طاولة المقربين جدّا من رئيس الدولة بعد الخروج الإعلامي المدوي للامين العام لاتحاد الشغل وبعد شعور جماعة قرطاح بأن الرئيس أصبح معزولا وانه قد خسر في لحظة واحدة أهم واكبر داعميه..
تسلسل الأحداث لافت للنظر: حضور لطفي زيتون الذي استقال من حركة النهضة،يوم 20 جوان على قناة التاسعة وفي الغد دعاه رئيس لدولة للقائه ومن ثمة التقى لطفي زيتون مع راشد الغنوشي ومن بعده نورالدين الطبوبي وانعقد اللقاء المطول بين قيس سعيد وراشد الغنوشي لإذابة الجليد أولا ولتأكيد الشخصيتين أن ما حصل بينهما هو مجرد سوء تفاهم وأن لا اعتراض لأحدهما على الآخر..
ثم كان الطبق الرئيسي الذي اقترحه صاحب قرطاج على ضيفه: رحيل المشيشي بالحلّ الذي تريدونه،يعني أما إجباره على الاستقالة وعندها يعين رئيس الدولة الحكومة،بعد تكليف شخص بها،وتكون الحكومة مسؤولة فعليا أمام الرئيس وهي لن تكون حكومة معادية للنهضة في كل الأحوال وإذا لم يعجبكم هذا الحلّ فاسحبوا منه الثقة وعينوا أنتم الأغلبية البرلمانية رئيس حكومة جديد وأنا (قيس سعيد) لن اعترض عليه ..
يبدو أن الصفقة قد أغرت «شيخ الإخوان» كما تسميه عبير موسي وأعرب عن مباركته لها ولكنه أردف بأن للحركة مؤسسات وينبغي عليه الرجوع إليها ..
بالطبع تحدث الرجلان عن «الحوار الوطني» ولكنه كان نقطة هامشية والاتفاق كان هلاميا غائما : حوار وطني جدي لا يستثني أحدا وما نتوافق عليه بشان إصلاح النظام السياسي نطبقه معا،فلا حديث إذن عن دستور 1959 ولا عن شروط مسبقة للحوار ولا على تحديد موعد له ..
ولكن ما هي حظوظ تطبيق هذه الصفقة ؟
الرئيس على صواب عندما يقول أن الوضع اليوم يختلف عن الوضع في 2013،ولكنه لا يقرا جيدا طبيعة الاختلافات إذ هي لا تهم فقط خصومه بل وكذلك وضعيته وقدرته على التأثير...صحيح أنه منتخب بأغلبية لم نر لها مثيلا بعد الثورة وأن لديه القدرة على تعطيل كل مبادرات السلطة التشريعية وحتى جزءا من أعمال الحكومة ولكنه مع ذلك لا يملك أدوات الفعل المباشر ..ثم ماذا لو عمدت حركة النهضة إلى سحب الثقة من هشام المشيشي وتعيين رئيس حكومة منها أو قريب من حزامها السياسي ،أفلا يعني ذلك أن رئيس الدولة سيفقد كل مبادرة سياسية إلى نهاية هذه العهدة ؟ أفلا يكون ثمن رأس المشيشي غاليا جدا بالنسبة له ؟ وهل سيلتزم بهذا الاتفاق أم سينقلب عليه في أول فرصة؟
ثم وإن كنا شبه متاكدين بأن النهضة لن تعيد الكرة إلى رئيس الدولة لأنها تخشى نفوذه على السلطة التنفيذية بما قد يعني تقزيم دورها ولكن هل لديها القدرة على إقناع أغلبية برلمانية مستقرة بسحب الثقة من المشيشي باعتباره احد بنود الاتفاق مع سعيد ؟ وهل أن مصلحة شركائها (قلب تونس أساسا) تتقاطع بالضرورة معها أم أن التمسك بهشام المشيشي هو الأقل ضررا بالنسبة لهم؟
وإن ننسى فلا ننسى الاتحاد العام التونسي للشغل والذي لن يقبل بعقد صفقة على حسابه حتى وإن أقسم الطرفان على غير ذلك ،كذلك كيف سيكون تصرف حلفاء الرئيس والذين دخلوا في معركة من أجله ضد الحركة الإسلامية ؟
ولإضافة تعقيدة إلى التعقيد نقول بأن لهشام المشيشي أيضا بعض الأوراق وليس من المؤكد أنه سيلقي سلاحه دون خوض المعركة.
فعلا ما أشبه اليوم بالبارحة إذ نكتشف – اليوم - أننا لم نخرج من منطق الصفقات وذلك أيا كان الإخراج البلاغي لها وأن ترديد الجميع بأن مصلحة تونس فوق كل اعتبار لا معنى له إلا لمن لم ييأس بعد من السياسيين أو من بعضهم ..
هنالك صفقة في الأفق نعم ..ولكن الحلّ ما زال بعيدا جدّا.
من 2013 إلى 2021 مسار الصفقات متواصل ...
- بقلم زياد كريشان
- 11:31 26/06/2021
- 1469 عدد المشاهدات
ما أشبه اليوم بالبارحة..صراع محتد على أشده وحرب أهلية باردة في الأفق وكل صفّ يحشد أنصاره وأصدقاءه في الداخل والخارج،