ممارسة للسياسة أم خَبْطَ عَشْوَاء

الشيء ونقيضه، الكيل بمكيالين، التضارب بين القرارات والتصريحات،... هي عبارات تُتداول منذ مدّة، على ألسنة المتابعين للشأن التونسيّ.

قد يُصدم البعض فلا يصدّق ما يحدث، وقد يتحسّر البعض الآخر على زمن «الدولة القوّية» بمؤسساتها و«رجالها» ولكن ماذا كنّا نتوقّع بعد تغيّر السياق وبروز تركيبة مجلس الشعب الجديد، وظهور «لاعبين جدد» وتدفّق سيل من «العجائب والغرائب»، وتغيّر موازين القوى، وضمور رغبة أغلب مكوّنات المجتمع المدنيّ في الصمود؟
لاشكّ عندنا أنّ أدوات التحليل التي بحوزتنا، ما عادت كافية لفهم هذا الواقع السياسيّ-الاجتماعيّ المعقّد وما ترتّب عنه من نتائج، فلا مفهوم المعارضة ظلّ على حاله متطابقا مع أدبيات السياسة، وما حدّده المنظّرون/ات من ضوابط، ولا مفهوم الاعتصام أو الاحتجاج أو المقاومة تقيّد بالدلالات المتعارف عليها، ولا أداء الأحزاب المعارضة، والرؤساء والنوّاب معبّر عن المتوقّع، إن لم نقل المقبول. فهل بلغنا مرحلة تسود فيها أفعال وممارسات أقلّ ما يقال عنها: خَبْطَ عَشْوَاءَ، أي التَحَرَّكُ دُونَ عَقْلٍ وَلاَ ضَابِطٍ، وكَيْفَمَا اتَّفَقَ؟

ففي مستوى من يُمسكون بزمام السلطة ينقلب رئيس الدولة إلى ملاكم يوّجه اللكمات لخصومه فمن عُزل (وزير الثقافة، رئيس الهيئة العليا لمكافحة الفساد ) يُستضاف، ومعه- وبه توجّه خطابات التنديد والتشهير والتوعّد إلى الخصوم... ويتحوّل رئيس الحكومة إلى مهندس لمأسسة التمييز على أساس الموقع، والأهميّة والقرب والولاء، فتغدو الأولويّة في اللقاح للبطانة، وأصحاب المقامات العليّة، وتدار احتجاجات الحزب الدستوري على النقيض من إدارة احتجاجات حركة النهضة، وتحرّكات زعيمها، ويغدو العنف المسلّط على «عبير موسي» غير مندرج في سياق قانون مناهضة العنف المبنيّ على النوع الاجتماعيّ... وفي السياق نفسه يتحوّل النوّاب المدافعون عن رئيس كتلتهم وحزبهم إلى معتصمين رافضين الامتثال للقرارات في محاولة واضحة للتأثير على القضاة، وضرب استقلالية القضاء... وإذا كان هذا حال من هم في السلطة فلا تسأل عن ردود أفعال عموم الناس. ففي معهد ابن شرف اعتصام وإيقاف بالقوّة لسير الامتحانات، وفي جامعات أخرى تجاوز للقوانين وهيمنة لللوبيات، إلى غير ذلك من الأمثلة الدالة على أنّ أغلب «الناس على دين ملوكهم».

وبما أنّ حزب النهضة يتموقع باعتباره أكبر حزب في البلاد وأكثر الأحزاب تنظّما وامتثالا للضوابط فلا بأس أن يُوضع تحت المجهر وأن تُوجّه له أسئلة جديدة أوّلها: ما له صلة بسياسات احتواء عدد من التجمّعيين ومنحهم مسؤوليات والتعويل عليهم لإدارة بعض الملّفات وإعادة إحياء إرثهم، فهل كانت النهضة بالفعل، معارضة للتجمّع، وثائرة على ممارسته القائمة على التمييز والقهر والإكراه والابتزاز..؟ إنّ الكره هو الوجه الآخر للحبّ. وثانيها: في ما له علاقة بالمرجعيّة التي تحوّلت إلى مرجعيّات ولم تخضع أبدا إلى المراجعات. يكفي أن نطلّع على أدبيات الحركات منذ تأسيسها إلى اليوم، لنتبيّن أنّ هويّة الحركة/الحزب قد تغيّرت على مرّ السنوات، بل إنّنا نزعم أنّ الحركة تشظّت فبات من المقبول الحديث عن نهضات لا نهضة واحدة وسلوكات وممارسات.... فالحزب الذي يستقطب الفتيات الشقروات السافرات المحافظات على آخر التقليعات في الموضة، ويعترف بحقّ المثليين... لا يعكس تطلّعات النهضة التي انخرطت فيها نساء آمنّ بأنّ الحجاب شرط أساسيّ للنشاط داخل الحركة، ودافع فيها الرجال عن «رجولتهم». فهل أن الحديث عن حزب بمرجعيّة إسلاميّة معبّر بالفعل عن الديناميكيات داخل الحركة؟ فما يقدّم على أنّه من ثوابت الحركة قد اربك -إن لم نقل نسف-، وثالثها: ما يتصّل بالخبرة والقدرة على تدبير السياسة وفهم الرهانات. فما عرض في تقارير «أنا يقظ» و«بوصلة» وغيرهما من المنظمات والجمعيّات يكشف النقاب عن انتهازيّة ومقت للقوانين المقيّدة للإرادات واللاجمة للرغبات، وفرض

للأمر الواقع بالقوّة... فهل يعني هذا أنّ الانتقال من الخطاب والخطب الدعوية إلى الفعل السياسيّ ومواجهة إكراهات السياقات الجديدة قد أحدث فجوة كبرى تهدّد بالقضاء على المصداقية؟ وهل أنّ عجز النهضة اليوم عن لعب دور أساسيّ لمواجهة الأزمة مؤشّر على فشل في الحكم؟

كلّ هذه الأسئلة وغيرها تدفع المنتمين إلى الحزب إلى إعادة النظر في تاريخهم والتأمّل في ما آل إليه أمرهم بعد تولّي الحكم مباشرة أو من وراء الستارة، والتخلّي عن سرديّة «الاستثناء»، إن هو إلاّ حزب مثل سائر الأحزاب التي لم تمتلك تصوّرا ولا خبرة وغامرت بممارسة الحكم فإذا بها تتعرّى فتظهر السوءات.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115