كبيرا من التونسيين/ات إلى مقاطعة أغلب البرامج والاكتفاء بمتابعة نشرة الأخبار اليومية أو استبدال وسائل الإعلام المرئية بوسائل الإعلام السمعية أو شبكات التواصل الاجتماعي؟ وهل يمكن القول إنّ إرهاصات حدوث القطيعة قد لاحت؟
«إعلام العار» عبارة ينطق بها عدد من المشاهدين المستهلكين لما تعرضه الفضائيات، وخاصّة القنوات الخاصّة من برامج تكرّس الجهل والبلادة الذهنية وتستخف بحقّ الموطنين في الثقافة والمعرفة والتسلية الهادفة وغيرها، وهو شعار لا ترفعه هذه المرّة، الجماعات المحسوبة على «الإسلام السياسي» لخدمة أهداف سياسية وأيديولوجية، بل تلتقي شرائح واسعة من التونسيين/ات على توصيف «المشهد الإعلامي» بالانحدار و«السقوط» و«العار». وما دام الطّبع هو الشين والعيب فإنّ «إعلام العار» هو ذاك الّذي يتاجر بقضايا الناس، وما دام الطّبع هو الوسخ الشديد فإنّ مقاطعة «إعلام العار» تعتبر حجّة على وعي الجمهور وانخراطه في الدفاع عن الثقافة الحقوقية.
وبما أنّه لا يتسنّى لنا التمحيص في مضامين أغلب البرامج فقد اخترنا التوقّف عند إشكالية تطبيع عدد من وسائل الإعلام مع أشكال من العنف لما لهذا التوجّه من انعكاسات خطيرة. ويعرّف التطبيع Normalisation بأنّه إخراج الممارسات والسلوك والأفعال في لبوس «الطبيعي» والعادي والمقبول والمألوف والمناسب ممّا يجعل المقاومة أمرا مستغربا إذ أنّى للمرء أن يرفض التكيّف مع الأوضاع والسياقات.
أن تستضيف قناة تلفزية نائبا ممارسا للعنف معناه أن يتضاعف الأذى، فيغدو العنف الذي مارسه النائب في فضاء مجلس الشعب معمّما، ومولّدا لعنف آخر تتبنّاه القناة وتدافع عنه طمعا في رفع نسبة المشاهدة وتحقيق السبق الإعلامي والربح، وبذلك تختزل الجماهير في البعد الاستهلاكي فتتحوّل إلى قطيع يُساس من خلال الضحك أو الإثارة ... والظاهر أنّ سياسات التطبيع مع مختلف أشكال العنف صارت مركزية في عدّة قنوات ترى أنّ تعنيف النساء في مشاهد السخرية والهزل أو تناول العنف ضدّ النساء من منظور التحيّز للنظام الذكوريّ، وتأثيم المرأة -الضحية أمرا مقبولا بل مطلوبا.
إنّ عدم الاعتبار من التجارب السابقة حين مالت بعض القنوات إلى دعوة ‘ الإرهابيين» إلى المشاركة في البرامج بتعلّة حق الجميع في التعبير كان له ثمن باهظ وتكلفة كبيرة. كما أنّ الاستخفاف بالقوانين الصادرة لمكافحة التطرّف وخطاب الكراهية والعنف الممارس على الفتيات والنساء والأطفال والمسنات له تبعات ويستوجب المساءلة والمحاسبة.
ونذهب إلى أنّ غياب الوعي والافتقار إلى التصورات التي تجسّد انسجام المبادئ والمواقف ومتانة الثقافة ظاهرة لا تقتصر على أبرز الساسة بل ثمّة علل وأزمات هيكلية صارت متشابكة تعرّي التناقضات وضعف القناعات إذ لا يمكن الاحتجاج على محاولات التطبيع مع الكيان الصهيوني وإبراز مشاعر الغضب والحماسة والنخوة و.. وفي مقابل ذلك الصمت أو الاكتفاء بعد ساعات من الفرجة على برامج تطبّع مع العنف ضدّ النساء، والإرهاب وغيرها بترديد ‘إعلام العار’. ولا يمكن للتنويري -الحداثي أن يكتب تدوينة أو مقالا ينقد فيه محتوى البرامج ثمّ يتنمّر وينشر صورا للسخرية من أجساد الناس ثمّ يبرّر ذلك بأنّها مجرد دعابة وشكل من أشكال الترويح عن النفس. وقس على ذلك مظاهر أخرى من التطبيع مع الرداءة والفساد والزبونية و.. التي تثبت اتّساع دائرة التطبيع وتغلغله في الحياة اليومية.
إنّ سياسات التطبيع سياسات قصدية يُراد من خلالها تغيير قاعدة التواصل وتنظيم العلاقات وفق أهداف محدّدة ولا ضير إن مرّ التطبيع على حساب أصحاب الأرض أو على أجساد النساء وأهل الهويات الغيرية والمقهورين/ات وغيرهم. ونعتقد أنّ التطبيع يعرّي تشابك البنى الهيمنية وترسّخها في المتخيّل الجعيّ ويكشف عن مناطق الهشاشة وما أكثرها.