الحكومة في مواجهة الاحتجاجات الاجتماعية: المعــــادلات الصعبــــة

تعيش تونس اليوم على وقع الأغنية الرائعة لفيروز «الغضب الساطع آت» دون أن يكون لها الحدّ الأدنى من الإيمان بالسبل المؤدية للنجاة..

غضب الجهات والفئات .. غضب الحركات الاحتجاجية الجديدة .. غضب يشبه في كثير من مظاهره ما اسماه فلاسفة العقد الاجتماعي بـ«حالة الطبيعة» والذي وصفه الفيلسوف الانجليزي توماس هوبز بـ»حرب الكلّ ضد الكلّ»..حرب تراوح بين الغضب التقليدي المتمثل في الإضراب والاعتصام وغضب من صنف جديد (ولكنه ليس خاصا بتونس) قوامه إيلام السلطة المركزية بقطع الإنتاج وإيقاف عمل مناطق صناعية لحمل الحكومة قسرا إلى «طاولة المفاوضات» إذ يعلم الجميع – وأولهم الحكومة – أن اللجوء إلى العنف الشرعي للدولة أصبح عسيرا وغير مضمون العواقب .
لا أحد يتمنى اليوم أن يكون في موقع رئيس الحكومة لأن هامش تحركه محدود للغاية إذ أن الثقة في الدولة وفي وعودها تكاد تكون معدومة وأفق انتظار المحتجين لا يتجاوز اللحظة الراهنة في أحسن الأحوال ..
يعلم الجميع – أو هكذا من المفترض أن يكون – أن تلبية مطالب كل أصناف الاحتجاجات التي تشق البلاد الآن والتي ستتضاعف خلال الأيام والأسابيع القادمة أمر مستحيل ولا تقدر عليه أية حكومة مهما كانت حسن نواياها بل لا ندري كيف ستتمكن هذه الحكومة من الإيفاء بتعهداتها الراهنة من خلاص أجور موظفيها وسداد ديونها وإنجاز سياستها الاجتماعية العادية من تعويض وتدخلات للفئات محدودة الدخل وصيانة مؤسساتها وهياكلها وبنيتها التحتية فضلا عن الاستثمار فيها ..
ولكن كل هذه المعطيات الموضوعية والتي لا يناقش فيها أحد اليوم لا تعني شيئا لكل الجهات والفئات والمهن الغاضبة والتي ترى أنها قد ضحت أكثر من غيرها وانتظرت أكثر من اللزوم ..
هل نحن أمام انفجار اجتماعي لا يبقي ولا يذر؟
هذا ما يخشاه البعض ولكننا لا نرجح حصوله لنفس هذه الاعتبارات الموضوعية التي ذكرنا فرغم «قبائلية» كل هذه المطالب وعنف بعضها إلا أن الجميع يدركون بصفة حدسية أن إسقاط البيت الجماعي سيكون كارثيا بدءا على كل هذه الفئات الغاضبة والمحتجة .
هل تفيدنا اليوم كثيرا هذه اللطيمات الجماعية على الفرص المهدورة وهذا السعي المحموم لتحميل مسؤولية هذه الإخفاقات لحكومة بعينها أو لأغلبيات حزبية تداولت على حكم البلاد؟ لا نعتقد ذلك لأننا بذلك نفاقم الأزمة ونعسّر من شروط الوحدة الدنيا لمواجهتها ..
ما ينقصنا اليوم هو إيجاد هذه المعادلة المعقدة بين التحسين النسبي ولكن الفوري لأوضاع المواطنين في سياق رؤية إصلاحية متكاملة وعقد اجتماعي جديد يقوم - فيما يقوم عليه - على الانصراع الكلي والجماعي للعمل ولإنتاج الخيرات ولشحذ كل الهمم.. والسؤال المحيّر هو كيف يمكن أن نقوم بكل ذلك مع هذا المستوى شبه المنعدم من الثقة في الدولة وفي مؤسساتها؟ كيف يمكن أن نستجيب لمطالب جهة أو فئة أو مهنة دون أن يكون الحلّ الوقتي إغراقا إضافيا لميزانية الدولة وإجبارها على التداين وعلى تضخم جديد في عدد أعوانها وموظفيها؟ كيف يكون الحلّ الوقتي الضروري خطوة فعلية لبناء ثروة بشروط مستدامة لا إنفاقا عموميا إضافيا دون أفق تنموي جديد ؟
لو كانت الأجوبة سهلة على هذه الأسئلة لما تحطمت على صخورها أسنان كل الحكومات المتعاقبة قبل الثورة وبعدها .. فالتناقض بين طرفي المعادلة واضح ولم نملك إزاءه إلى حدّ الآن سوى شعارات جوفاء لا مضمون لها كحديثنا عن «الحلول غير التقليدية» دون تقديم أي حلّ أو تبشيرنا بـ«منوال تنمية بديل» دون أن نكون مدركين – في الأغلب الأعم – لأبجديات حقيقة آلتنا الاقتصادية وبنقاط ضعفها وكذلك بمواقع قوتها وصلابتها ..
هل من معنى أمام هذا التحدي الضخم الذي تعيشه بلادنا سلطة ومعارضة أو الاعتقاد انه يكفي أن ينتصر الحزب الفلاني أو أن ينهزم الحزب العلاني حتى نخرج من «عنق الزجاجة» أو أن نغير من قوانين اللعبة السياسية والمؤسساتية ولكن مع الإبقاء على نفس الطموحات والأوهام ؟
لا وجود ،في المطلق ،لمشكلة تستعصي على الحلّ ،ولكن هل نملك الطاقة الكافية لمواجهة جماعية لهذا التحدي ؟ ذلك هو السؤال ..
هنالك دوما من يراهن على الأزمة وعلى استفحالها ومن يعتقد أن انفجارها سيجلب له منافع مادية أو معنوية .. وهذا الصنف مازال هو الغالب عند جلّ نخبنا .. ولكن الوعي يتزايد بوضوح بضرورة طي صفحة هذه الحسابات وأن فشل الانتقال الديمقراطي في تحقيق الانتقال الاقتصادي والاجتماعي يفتح الباب على مصراعيه لكل المغامرات الشعبوية والنزاعات التسلطية هذا إن لم يعاجل التفكك البلد ويحوّله إلى طوائف متناحرة.
المشكلة لا تكمن في خارطة طريق للخروج من الأزمة ،المشكلة كل المشكلة تكمن في ما يسمى بسياسة الخطوات الأولى أي الاستعداد الذهني للتعاون ولوضع الخلافات جانبا من أجل إنقاذ البلاد ..
مازال الأمل قائما في تونس.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115