رغم التسليم بجدوى فتح جسور التشاور بين مختلف مؤسسات الدولة بغاية توفير أرضة الإنسجام و التفاعل الإيجابي في ما بينها. فلا مرجع نظر مجلس نواب الشعب و لا شكل الحوار كانا مناسبين وكان لا الزمن ملائما لإجراء حوار بنّاء يمكن من خلاله تشخيص الحالة الّتي وصل إليها القضاء في العشرية الجارية .
فمن حيث مرجع النظر، نشير إلى أن «المجلس الأعلى للقضاء مؤسسة دستورية ضامنة في نطاق صلاحياتها حسن سير القضاء واستقلالية السلطة القضائية طبق أحكام الدستور والمعاهدات الدولية المصادق عليها» وذلك حسب احكام الدستور ، كما ليست خاصة بالقضاة بل بالقضاء بمختلف مكوناته ، و بالتالي لا تخضع لمساءلة من السلطة التنفيذية أو
التشريعية ولا رقابة عليها غير الرقابة الذاتية و مختلف المبادئ القانونية الّمضمنة بالدستور و بالقانون الاساسي و مختلف النصوص المتفرقة المنظمة لمسؤولية القضاة و للهيكل الّذي ينضوي تحتها القضاة. وحتى اذا إعتبرنا ما أن تمّ تنظيمه «حوارا» فإن مجلس نواب الشعب بتركيبته الحالية ،لا يشكّل الفضاء الأنسب لإدارة حوار حول شأن يعتبر ركيزة لدولة القانون و وعاء لهيبتها ورمزا لسلطة يقاس بها تحضر الشعب و تقدم الدولة ونجاعة سبل حماية الحقوق و الحريات فيها . وسبب ذلك عدم امتلاك أغلب ممثلي الشعب - حديثي الإطلاع على مهام التشريع - لمؤهلات الخوض في مسائل تقتضي المعارف الدنيا لمستلزمات الحوار و أدوات المعرفة لإدارة شأن يقتضي الدراية الكافية بالقوانين . و الدليل على ذلك أن الحوار لم يخرج عن الاتهام و رد الاتهام بين سلطة تتهم بالنقص والخلل في تشريعاتها وسلطة تتهم بالبطء والتقصير في تطبيق القوانين و إقامة العدل، الأمر الذي جعل المتابع يخرج بانطباع مفاده أن سبب أمراض الدولة وأزماتها متأت من السلطتين التشريعية والقضائية .
أما من حيث توقيت إجراء هذا الحوار ، فإنه كان غير ملائم ،لأنه لا أحد كان مهيأ لخوض حوار رصين و عميق بسبب ما يشهده الوضع البرلماني والسياسي من فوضى و تقـزيم وإنحدار وكذلك بسبب ما أثاره تقرير محكمة المحاسبات كسلطة قضائية إدارية ،من تجاوزات و إخلالات وجرائم في مجريات الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2019، والّتي لا يُنظرُ لها بعين الرضى من أغلب نواب الشعب الّذين يضطلعون بمهمة نيابة الشعب بواسطة الآليات الانتخابية الّتي هي محل شُبهة، الأمر الّذي جعل النواب يستغلون الفرصة لإطلاق وابل من التهم وصلت إلى حد التجريح والقذف العلني على مرأى و مسمع من الجميع فبدا الحوار كأنه محاكمة للمجلس والقضاة ، و ليس حوارا لتشخيص مواطن الخلل و كيفية معالجتها .
هذه المقاربة في تقييم الحوار تكشف عن أسباب تحوّل الحوار إلى المنابر الإعلامية فجعلت أعضاء من محكمة المحاسبات يخرجون إلى العلن لتفسير ما جاء بتقرير المحكمة و أيضا لتبرير ما توصلوا إليه من استقراءات واقعية ومادية وللدفاع عن أنفسهم - أحيانا - بخصوص استنتاجاتهم و الحدود الّتي وضعها القانون لهم ، سواء بخصوص التقرير الأخير أو بخصوص مآل التقارير السابقة لدائرة المحاسبات ، إلى درجة أن بعض منتقديها وضعوها موضع المؤسّسة المكرسة للإفلات من العقاب .
لذلك شكل هذا الحوار فرصة للنواب «لغسل ذنوبهم» بلهجة يعرفون أنها محبّذة لدى عامة الناس الّذين لا يتابعون الحوارات المباشرة المنقولة لهم ، بل يكتفون بإلتقاط المقاطع المُنتقاة الّتي تُبثُ على الأثير لينسجوا عليها ما تراءى لهم من تعاليق.
ولكن هذا الظهور الأول من نوعه لمكونات المجلس الأعلى للقضاء لم يكن مجديا في نظري و ما كان لأحد من العارفين بالشأن القضائي أن ينصح بخوضه في هذا المجال الواسع المنفلت، دون دراسة جدواه و أبعاده و تبعاته .
لقد كانت مثل هذه الحوارات تجرى مع وزراء العدل ، الّذين كانوا في موقع مريح لإمكانية توزيع تحمّل المسؤوليات و لكن لم يكن منتظرا ظهور المجلس الأعلى للقضاء في هذه الواجهة بالشكل الّذي تمّ فيه ، لذلك نجح الراغبون في التقليل من شأن السلطة القضائية و هيبتها، في تحقيق مرادهم .
هنا يجب التذكير بأن إنشاء مجلس أعلى للقضاء مستقلا و محايدا كان مطلبا لكل الحقوقيين، شأنه شأن بعث محكمة دستورية و ظهرت المخاوف من المؤسستين منذ بداية النقاش في قوانينها الأساسية ، و الدليل على ذلك أن الحسم في الطعن في القانون الأساسي المتعلّق بالمجلس الأعلى للقضاء لم يحصل أمام الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين ، التي لم يحصل فيها إفراز الأغلبية المطلقة لإتخاذ قرارها ، الأمر الّذي جعل رئيس الجمهورية الراحل محمد الباجي قايد السبسي يحسم الجدل بختمه للقانون الأساسي في 28 /4 /2016 و ذلك بعد لقائه بكلّ من وزير العدل ورئيس الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين وثلّة من الخبراء وأساتذة القانون ومع ممثلين للقضاة. ( المغرب 29أفريل 2016)
لقد توسّم الحقوقيون خيرا بتغيير القانون المنظم للمجلس الأعلى للقضاء رغم النواقص للإعتقاد الراسخ بأن مهمة القضاء جسيمة لمقاومة الفساد المالي و الفساد الإجتماعي وصيانة الحقوق والحريات و إحترام مقومات الدولة و مؤسساتها ، ولأنه حقّق جانبا هامّا من إنتظارات العائلة القضائية الموسّعة وإستجاب للمعايير الدولية لإستقلال القضاء و كان يُعتقد أن يشكّل المجلس الأعلى نقلة نوعية للمنظومة القضائية ترسي العدل و تذود عن قيمه.
و لكن لاح من البوادر الأولى لإنطلاق المجلس الأعلى للقضاء أن المهام صعبة، و أن إرادة إلتفاف العائلة القضائية حوله و إرادة الماسكين بدواليب الدولة غير متوفّرة لخوض معركة التغيير الجذري و العميق لإرساء منظومة قضائية تضمن إستقلالها و تضمن في نفس الوقت نجاعتها وعدم إخلالها بالتوازن بين مختلف السلطات بآليات قانونية تكسب قبول وثقة الجميع.
و بعد التعللّ بضعف الموارد المادية وعراقيل العمل ، و تجاوزها نسبيا لم نشهد إرادة فاعلة للتغيير في الشأن القضائي ، بل عمّ التذمر من القضاة أنفسهم و من المحامين و الممثلين لمساعدي القضاء في المجلس و من المتقاضين من بطء تغيير العقلية السائدة .
لذلك سبق أن أكدنا أن المجلس الأعلى للقضاء ليس غاية في حدّ ذاته ، بل هو وسيلة لتركيز سلطة قضائية عادلة ومنصفة و محايدة و فاعلة في تكريس سيادة القانون و المؤسسات.و على الدولة أن توفر ما يكفي من موارد مالية و بشرية و بنية أساسية لضمان حسن سير القضاء ، كما أنه على الماسكين بهذا الهيكل أن يدركوا ، أنّهم لن يدركوا غايتهم في تشكيل سلطة قوية دون إشراك كافة الأطراف المعنية و ذلك لكسب الثقة فيه و تبديد المخاوف ممّا مورس و يُمارس باسم القضاء .
إن الشأن القضائي لم يستقر منذ سنوات وليست للمجلس صورة نقية حتى لدى المنتسبين إليه و لن يصلح شأن القضاء مادام مخترقا في كل المواقع من حركة النهضة الّتي لها نظرة مغايرة للقضاء، وهو أمر ما كان ليحدث لو لم تتوفر إرادة الانصياع في داخله بإقتناع أو بخوف أو بانتهازية ، و لنقل بكل جزم أنه لن تُصلح شؤون البلاد ما لم تصلح شؤون القضاء .