الغضب والحنق والاستياء والتعبير عن الكره: كره الذات وكره الآخر... وكأنّه لا مجال للتريّث والتدقيق في المصادر المتنوّعة والاستقصاء ومحاولة استيعاب ما حدث والبحث عن مصادر أخرى للتحقّق من الوقائع... وكأنّه لا وقت لدى الجمهور للتدبّر والتفكّر إن هي إلاّ أهواء (غضب ...) تتلاعب بهم فتدفعهم إلى التعبير عن المكبوت والمكتوم والقابع في اللاوعي والمتخيّل...
فما إن ذاع خبر الاعتداء الوحشيّ على المصلّين في كنيسة نيس حتى انطلقت التعليقات والتأويلات والتدوينات وغيرها. وانخرطت الجموع في إصدار الأحكام وتحميل مسؤولية ما حدث إلى هذا الطرف أو ذاك. ثمّ سرعان ما انتشرت صورة «القاتل» وحدّد اسمه ولقبه ومدينته، ووُصف المسار الذي قطعه من لامبادوسا Lampedusa إلى فرنسا. ولم تمر بعض الساعات حتى ظهر فيديو لوليد السعيدي يؤكّد فيه على تبنّي «جماعة أنصار المهدي بتونس والمغرب العربي» للعمليّة ويهدّد فيه «الصليبيين ومن والاهم إلى يوم الدين» بالذبح «انتصارا لرسول الله».
إنّ ما يسترعي الانتباه في ردود الفعل والتعاطي مع هذه المعلومات ذات السمة الانسيابية هو استعداد أغلب المتفاعلين، وهم من المُدينين للتطرّف والإرهاب، للدفاع عن وجهات نظرهم بكلّ شدّة، ولا ضير إن لعن الواحد منهم من خالفه في الرأي، وشتمه واحتقره... فالسياق يُحفّز على إظهار «الحماسة» وممارسة «الهجاء»، أي العنف اللفظيّ والرمزيّ وتلك لعمري مفارقة من بين مفارقات أخرى: أن يمارس العنف بدعوى إدانة العنف والتطرّف والإرهاب.
أمّا المناصرون لـ«غزو بلاد الإفرنج» و«تركيع فرنسا»، والمتأثّرون بأدبيات «الصارم المسلول على شاتم الرسول» فإنّهم وجدوا في شعار «نصرة رسول الله» ضالتهم. فأظهروا الفعل الإجرامي في ثوب «الجهاد» وبرّروا التوحّش باسم الغيرة على الإسلام و«الاستشهاد في سبيل الله».. ولم يجدوا حرجا في التعبير عن مشاعر الفرح والحبور والغبطة والتماهي مع من قتلوا أخذا بالثأر وحماية للعرض إذ لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدمُ
ولا مانع لدى هؤلاء الناقمين على فرنسا والغرب أن يتلاعبوا بالعقول «بفبركة الفيديوهات» وتغيير المعطيات وإذاعة الإشاعات. فهوية المعتدي في مدينة Avignon ، وهو فرنسيّ، تصبح هويّة الإرهابيّ التونسيّ في محاولة للتضليل وكسب مزيد الأنصار إذ «لا علاقة للإسلام والمسلمين بعملية نيس».
إنّ هذه المواقف المتشنّجة والمتسرّعة تُبين عن مدى هيمنة الأهواء (الغضب، الفرح،...) على أصحابها، وعسر عقلنة المواقف وما يواجهه الفرد من أزمات وأحداث في حياته اليومية، وهو أمر يحول دون توفير مناخ حقيقيّ للنقاش المعمّق الذي تواجه فيه الفكرة بالحجّة ويقابل فيه الرأي المتهافت بالمنطق والبرهان. إنّه مناخ يحجب إمكانات متنوعّة للتفاعل مع الطارئ والمباغت والصادم والمربك للقناعات والمسلّمات والمزحزح للحدود. ولا غرابة في ذلك ما دمنا غير محصّنين، فنظامنا التعليمي ومناهجنا التربوية تجعلنا في الغالب، غير قادرين على حسن الإصغاء واستيعاب ما يحدث وإدراك الخلفيات الثاوية . أمّا أدوات التحليل المعتمدة لدينا فقد صارت قاصرة عن تقديم فهم مغاير يواكب ما ينتج معرفيّا هنا وهناك. ولا تسل عمّا فعلته البرامج التلفزيونية «الترفيهية والسياسية» ووسائل التواصل بنا حتى بتنا نطالب بالحقّ في الصحة النفسية.
العالم يتحرّك من حولنا وتعاد فيه صياغة الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية وتبتكر فيه مفاهيم ومصطلحات ونظريات ومقاربات ونحن لا نكاد نبرح مكاننا نقف على الأطلال فنتحسّر على الماضي التليد والأمجاد، ونغضب عند قراءة قصيدة، ونطرب عند سماع آية فنردّد «الله الله»، ونثور لرسم كاركاتوريّ فنذبح باسم الله ونكبّر... هي الأهواء (الجشع، الغضب، الندم، البغض،الكراهية...) تسيطر على سلوكنا وخطاباتنا وقراراتنا فتُفتح مساحات للتعبير عن العواطف والمشاعر وتتسع دائرة التوتّر، والخصومات والصراع، والعنف.