رحيل أحد بناة دولة الاستقلال: أحمد بن صالح ، الشخص والجيل والطبقة السياسية

رحل منذ أيام قليلة أحد بناة دولة الاستقلال والشخصية الأقوى في ستينات القرن الماضي فقيد الوطن أحمد بن صالح ، هذا الذي ارتبطت باسمه تجربة

هامة عرفتها تونس آنذاك وهي التعاضد أو الاشتراكية الدستورية، تمييزا لها عن سائر التيارات الاشتراكية التي كانت سائدة في دول عديدة في العالم آنذاك.
لن تفي هذه الأسطر القليلة حق هذا الرجل العظيم الذي توفاه الأجل وهو على نفس الأفكار والقيم والمبادئ التي آمن بها منذ شبابه أي على امتداد ثلاثة أرباع قرن تقريبا.
لاشك أن تونس قبيل وأثناء وبعيد الاستقلال مختلفة كثيرا عن تونس اليوم ولكن من المفيد التذكير بمسائل بسيطة قد لا يعلمها جل شبابنا وكهولنا اليوم .

أحمد بن صالح المولود بالمكنين في 13 جانفي 1926 زاول تعليمه الثانوي بالمدرسة الصادقية وانخرط قبل بلوغه عشرين سنة في العمل السياسي الوطني ونشط منذ نعومة أظافره في الشبيبة الدستورية وذهب إلى باريس لدراسة الآداب العربية بجامعة السربون وكان الكاتب العام لشعبة الطلبة الدستوريين وعلى اتصال دائم مع الملك المحبوب المعزول في مدنية «بو» المنصف باي كموفد من الحزب الحر الدستوري الجديد.

سنة 1954 وفي سن 28 سنة تم انتخاب أحمد بن صالح كأمين عام جديد للاتحاد العام التونسي للشغل بعد الفترة الانتقالية التي أداها المرحوم النوري البودالي اثر اغتيال الشهيد فرحات حشاد في ديسمبر 1952.
واتحاد الشغل مدين لأحمد بن صالح ورفاقه في إنتاج أول برنامج اقتصادي واجتماعي ذي صبغة اشتراكية واضحة والذي اعتمده مؤتمر صفاقس سنة 1955.

بعيد الاستقلال لم تكن علاقة الشباب الثلاثيني جيدة للغاية مع الزعيم الحبيب بورقيبة فعمل على إزاحته من قيادة الاتحاد ولكنه رغم ذلك كان معجبا بذكائه الخارق للعادة وبقدرته الفائقة على العمل فعينه في 1957 وزيرا للصحة وقد قام بن صالح بأعمال جليلة ووضع استراتيجيات الوقاية والتلقيح من الأمراض المعدية المتفشية آنذاك حتى اعتبر البنك العام أن التجربة التونسية صحيا هي التجربة النموذجية في العالم الثالث .

بعيد الاستقلال أحمد بن صالح الدستوري الاشتراكي كان أقليا على مستوى صنع القرار إذ كان بورقيبة يميل إلى نوع من الليبرالية بصفة براغماتية ولكن سرعان ما أقنع الشباب الحزبي الاشتراكي بورقيبة وبعض زعامات الصف الأول بضرورة التخطيط وتغيير «المنوال التنموي» على حد تعبيرنا اليوم وشهدت البلاد أول مخطط تنموي لها منذ بداية الستينات والتي كانت عشرية أحمد بن صالح بلا منازع إذ جمع في يده كل الوزارات الاقتصادية وأسندت إليه في الأخير حتى وزارة التربية لقيادة التجربة التعاضدية بمباركة من بورقيبة قبل أن تدور الدوائر على ابن المكنين رغم أن بورقيبة هو الذي أمر بتعميم التعاضد ثم إذن بإيقاف تجربة التعاضد سنة 1969 ثم القي القبض على احمد بن صالح وحوكم سنة 1970 وكان سنه

آنذاك 44 سنة .. ثم هرب بن صالح من السجن سنة 1973 وهذا لوحده جدير أن يروى في شريط سينمائي وغادر خفية البلاد ولم يعد إليها إلا بعد رحيل بورقيبة عن السلطة حيث عاش بين ظهرانينا إلى حدود هذه الأيام الأخيرة وكان من أشد المتحمسين للثورة التونسية ولكن البلاد لم تتمكن من حسن الاستفادة من تجربته وتجربة رفاقه فبقي في بيته لا يتردد عليه إلا رفاق الدرب وبعض النقابيين بين الفينة والأخرى ..
ولكن احمد بن صالح على أهمية دوره وخصوصيته في بناء تونس المستقلة لم يكن وحيدا فنحن إزاء جيل كامل كان سنه في حدود الثلاثين عاما مع الاستقلال ونذكر هنا بعض هذه الشخصيات الأساسية في تاريخ تونس دون ترتيب ودون إحصاء لجميعهم : احمد المستيري ومحمد مزالي ومصطفى الفيلالي (أكبرهم سنا : 35 سنة) والباجي قائد السبسي وإدريس قيقة

وبشير بن يحمد (أصغرهم سنا : 28 سنة) والطيب المهيري وحسيب بن عمار وغيرهم كثيرون ..

هذا جيل الثلاثينيين أما الأربعينيون الذين أخذوا أيضا مواقع هامة في الدولة المستقلة فهم الباهي الأدغم والهادي نويرة والصادق المقدم والجلولي فارس والمنجي سليم وعبد الله فرحات وأحمد التليلي والحبيب عاشور وقد نسينا عددا هاما ولاشك ..
ثم سرعان ما لحق بهم شباب كانوا في حدود 25 سنة أو أقل في سنة الاستقلال ونذكر منهم منصور معلى ومحمد الصياح والطاهر بلخوجة ومحمد الناصر ..

بورقيبة لم يكن بإمكانه القيام بكل ما قام به لولا هذه الأجيال المتعاقبة ولولا هذه الطبقة السياسية التي تشكل وعيها في الحركة الوطنية وفي النضال من أجل الاستقلال ثم خدم كل هؤلاء الدولة فأحسنوا أحيانا وأساؤوا أحيانا أخرى ولكن غالبتهم الساحقة كانوا حاملين لمبادئ وقيم واجتهدوا في خدمة البلاد والعباد واختلفوا وتصارعوا وأبعد بعضهم من أجل أفكاره بل سجن كما كان الحال مع أحمد بن صالح ولكنهم ظلوا محافظين إلى آخر رمق في حياتهم ومن هم على قيد الحياة محافظون على قيمة القيم عندهم: حبّ تونس فقط لا غير ..

لا نقول كل هذا حنينا للماضي فجيل الدولة الوطنية أخطأ وأصاب، ثم إن تونس اليوم غير تونس السنوات الأولى للاستقلال وما كان صالحا – ولو إلى حدّ - بالأمس لم يعد بالضرورة كذلك اليوم ولكن لا تتأسس الشعوب والأمم إذا لم تحسن فعل التراكم : تراكم التجارب والخبرات مع ما يقتضيه ذلك من الإقرار بالفضل لأهله ومن دراسة حصيلة أعمالهم وأفكارهم ومن أداء واجب الاحترام والتقدير لكل هذه القامات الوطنية الشامخة ..

رحم الله احمد بن صالح ورفاقه الذين سبقوه رحمة واسعة ..
كل ما نتمناه أن تجود علينا الثورة بطبقة سياسية في قيمة ووطنية تلك التي بنت تونس المستقلة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115