زوبعة الحركة القضائية: تحويل النظر عن أولوية إصلاح القضاء

ما كتبناه عن القضاء طيلة السنوات الماضية لو سمعه الحجر لتململ ...
كل العناوين المستفزة تصدّرت الصفحات الأولى لـ«المغرب»، وقلنا عن القضاء «الأفق الغائم و الوجع الدّائم.» و«حال القضاء، حال الصبر» والقضاء الأولوية المنسية»

و«كذبة استقلالية القضاء». وأكدنا على أن : «المجلس الأعلى للقضاء في أوّل إمتحان للشفافية» و تناولنا « تداعيات الاكراهات المالية على القضاء» وتعرضنا لـ«الخلاقات النائمة» في القضاء ، وتساءلنا هل أن: «الإعلام والقضاء، فاعلان أم مفعول بهما؟» وعن «من يريد تسييس القضاء؟» وعن «أي دور لأصحاب الشأن في القضاء؟» و«كيف سيخرج القضاء من تقاطعات الساسة والقضاة؟» ... بعض من هذا على صفحات «المغرب» وغيرها كثير و لكن بقى الحال في الغالب على نفس الحال ، خاصة في البنية الأساسية و في تصورات التغييرات العميقة في النظام القضائي وآلياته.
نفس التعاليق تعاد كل سنة و آخرها ما تم تداوله في الأيام الأخيرة عن الحركة القضائية (2020 - 2021) الّتي أُعتبر فيها نقل وكيل الجمهورية بالمحكمة الإبتدائية بتونس نصرا مبينا ، وتعيين زوجة رئيس الجمهورية في صفاقس حدثا مشهودا، وعدم رضا البعض على مخرجات الحركة شيئا جديدا . إذ لا يغيب عن أحد أن ما يُخشى في القضاء ليس وجود شخص ما في موقع ما، وإنما سلامة ما يقضي به القاضي في أي موقع كان، وحياده المطلق والتزامه بتطبيق القانون ، وعدم خضوعه إلى أي ضغط أو إلزامه بالنطق بما لا يرضاه. لذلك لا شيء يبرّر التهليل أو التهويل .
كما أن تعيين قاض في محكمة ما لا يعني أنه سيباشر بالضرورة في تلك المحكمة فضلا على إمكانية إلحاق أي قاض لا حقا بنفس أحكام الضرورة ، وبالتالي لا فائدة من إعطاء نقلة السيدة إشراف شبيل سعيد كل هذا الجدل.
وللتذكير فإن نقلة القضاة وترقيتهم وإسناد الخطط والمسؤوليات تعود لمجلس القضاء العدلي الّذي يتعهد بالنظر في المسار المهني للقضاة العدليين من من تسمية وترقية ونقلة، وحسب الفصل 45 من قانون المجلس الأعلى للقضاء فإن المبادئ المعتمدة تتمثل في تكافؤ الفرص والشفافية والكفاءة والحياد والاستقلالية. وتراعي لهذه الغاية المقتضيات والمبادئ الواردة بالدستور والمعاهدات الدولية والمعايير والشروط المنصوص عليها في الأنظمة الأساسية للقضاة. وهذا ما يجب الانتباه إليه و التثبت من مدى إنفاذه .
وتجدر الإشارة -أيضا- إلى أنه من العادي أن تقع ترقيات و تعيينات و نقلة قضاة أو موظفين في أي قطاع دون حصول أي هرج، ولكن من غير العادي أن تكون حركة القضاة حدثا متميزا عن بقية الوظائف في الدولة . وهذا ما يطرح التساؤل عن سبب ما يحدث في كل عام في نفس الفترة. والجواب لا يمكن أن يكون إلاّ تأكيدا لما يتركه أثر عمل القاضي لدى عامة وخاصّة الناس ، رغم أن الأثر حسب المنطق السليم ، لن يزول في كل الأحوال سواء أكان طيبا أو سيئا ، بل سينتقل من مكان إلى آخر.
إذن يجب ألاّ نتوهم أن الحركة هي الّتي ستغير الشأن القضائي أو العقليات السائدة ، و نعود لنعيد ما سبق قوله بأنه لا شيء تغيّر رغم أن الهدف من العطلة القضائية هو إعادة الترتيب والتنظيم والإصلاح وإعادة تهيئة الفضاءات وتجديد التجهيزات المهترئة وتوفير مستلزمات العمل الناقصة . كالعادة لا شيء يتغيّر خلال العطلة القضائية، و هو ما جعلنا في أكثر من مناسبة ندعو إلى إلغاء هذه العطلة القضائية ، الّتي ما فتئت تتوسع عمليا بما أن كما هائلا من القضايا يقع تأجيلها إلى ما بعد السنة القضائية الجارية بداية من شهر ماي من كل سنة، و لا يكون ذلك لمنتصف شهر سبتمبر بل لمنتصف أكتوبر وبداية شهر نوفمبر في أحوال كثيرة.
نفس إنتظار السنوات الأخيرة لتركيز محكمة دستورية كان حلم أجيال عديدة ومازال قائما ، ونفس القلق من الرتابة و«تطويل المشاوير» وُضع في خانة السعي إلى مزيد ترتيب الأمور وضبطها لكي يكون كل شيء على المقاس المأمول و هو ما أكد أن كل المعارك السابقة كانت بغاية حيازة المراكز الحسّاسة والمؤثرة و لم تكن لتحييد القضاء و إنمّا كانت لإضعافه.
و المؤسف أن عدم الرضا عن وضع القضاء لا نجده لدى المتقاضين اللاّهثين وراء حقوقهم والحريصين على حرياتهم فقط ، بل نجده لدى الفاعلين في هذا المجال، أي من أغلبية القضاة و المحامين الّذين ملّوا انتظار تغيير شأن القضاء وملّوا من ظروف العمل السيّئة و يتطلّعون إلى الاطمئنان على أوضاعهم و مستقبلهم. ولكن لا نرى تفاعلا لدى السلطة العامة و لدى أطراف فاعلة من أصحاب الشأن وهياكلهم، لتغيير الأوضاع السائدة.
فأمر إصلاح شأن القضاء يعود في الأساس إلى الدولة المتمثلة في وزارة العدل، الّتي تضاءل دورها نظريا في شأن القضاة، مقابل توسع نظري -كذلك- لدور المجلس الأعلى للقضاء دون أن تحصل النقلة النوعية الّمنتظرة لإصلاح المنظومة القضائية . فالتشريع الجديد سحب جانبا من الصلاحيات من وزارة العدل و ألحقه بالمجلس الأعلى للقضاء، الّذي في غياب الآليات و الإرادة الخلاقة ، ظلّ يتفرّج غير قادر على أي فعل، لترابط الصلاحيات وغياب التواصل و انعدام التنسيق، وأصبحنا إزاء صلاحيات موزعة ولكنها متروكة دون أي رعاية من أي طرف.
هذا يعني أن دور وزارة العدل أصبح يقتصر على التوظيف و خلاص الموظفين والقضاة و تسطير السياسة الجزائية وإدارتها إلى حد ما ،و إدارة مصلحة السجون و الاضطلاع بمهام التفقد الّتي تكاد أن تكون دون فاعلية في الشأن القضائي الضيّق، ومتابعة شؤون البنية التحتية للمحاكم، والتصرف في ميزانية يُرصدُ نصفها لخلاص الأجور في حين لا تخصّص للتنمية إلاّ نسبة لا تتجاوز 5،14 % و هي نسبة ضئيلة جدّا أمام الحاجيات المتزايدة لمرفق القضاء وتهرؤ البنية التحية للمنشآت الموجودة وتخصيص نسبة لا يستهان بها لتسوغ مقرّات المحاكم ومصالح أخرى .
كل هذا سبق التأكيد عليه و لكن يكثر اللهط على الحركة القضائية ، ولا نجد أي اهتمام بإصلاح عميق للمنظومة القضائية رغم أنها أولوية الأولويات الّتي بدونها لا يمكن أن نتحدّث عن دولة القانون والمؤسسات و إقامة العدل.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115