ونحن الآن قبيل أول موجات هذا التسونامي القادم إذ لن تتمكن الدولة التونسية مهما انفقت من ضمان حياة كل المؤسسات وكل مواطن الرزق، والحصيلة لن تتضح بصفة نهائية إلا مع نهاية هذه السنة لنرى ماهي المؤسسات ومواطن الرزق والشغل التي صمدت ومازالت تتوفر على العناصر الدنيا من شروط الحياة وماهي التي اندثرت مع هذه الموجات الزاحفة القادمة...
الأساسي هنا ليس في الذعر والتخبط ومحاولة إنقاذ كل شيء.. الأساسي هنا هو أن نعقلن وأن نعيد بناء الفعل الاقتصادي العمومي والخاص على قواعد أكثر صلابة وديمومة ..
نظريا الفاعل الاقتصادي (الدولة..المؤسسة الخاصة المستثمر ..المستهلك ) هو فاعل عقلاني أي يريد تحقيق أفضل النتائج الممكنة ببذل أدنى طاقة ممكنة ،والعقلانية تعني أيضا أن هدف العملية الاقتصادية هو خلق أفضل قيمة مضافة ممكنة وتحقيق أوسع أنواع الربح المادي والمعنوي لكل دينار يتم استثماره ،وأن تكون هنالك آليات للتقييم والتعديل وأن كل ما يعيق هذه العقلانية الكلية إنما هو فساد للطاقة وإهدار للإمكانيات سواء أكان السبب انحراف بعض الفاعلين لتحقيق منافع شخصية مباشرة على حساب العملية ككل أو كل صنف من أصناف التكبيل الذهني والرفض لفاعلية أفضل والتمسك الأعمى بمنطقة الرفاه وبطاحونة الشيء المعتاد.
معيقات العقلانية كثيرة بعضها يرتبط بالمنظومات المادية التي تسمح بتسريب للطاقة كالأموال المهدورة بحكم ضعف الرقمنة مثلا والبعض الآخر بالمنظومات الذهنية المتحكمة في عقليات الفاعلين الاقتصاديين ..
إن أهم آفة ذهنية تصيب مجتمعا ما هي الايمان السحري بالفصل بين العمل والثروة المادية مهما كانت ضئيلة وانه بالإمكان الحصول على منافع مادية دون بذل العمل المناسب لذلك ..
لو نترجم هذه العقلية على مستوى عام سنجد أنها تحوم حول فكرتين أساسيتين : أولا تونس دولة غنية ولكنها منهوبة ،وثانيا على الدولة أن تكون دولة اجتماعية وان «الاجتماعي» ينبغي أن يسبق الاقتصادي وفق نظرة دولانية (étatiste) للاقتصاد ..
وبطبيعة الحال تتحول هذه العقلية إلى شبه عقيدة جماعية تتردد كل آن وكل حين من أعلى هرم السلطة إلى جموع المواطنين ولا يجرؤ كثيرون – بمن فيهم من هو مسؤول على التسيير الفعلي لدواليب الدولة- على كشف زيف هذه المعتقدات والانطلاق من الحقيقة البديهية وهي أن تونس مازالت بلادا فقيرة إلى حد كبير رغم كل ما أنجز فيها منذ الاستقلال وان النهوض بها وبكل فئاتها يتطلب جهدا استثنائيا وإعلاء قيمة العمل وقطع الدولة مع كل أشكال التبذير بما في ذلك بعض قراراتها «الاجتماعية» كشركات البستنة والغراسة والبيئة وإهدار المال العام بحكم بيروقراطية متنفذة وأن الإصلاح الحقيقي هو في تحرير كل الإرادات والفاعلين الاقتصاديين وفي توفير الإمكانيات لإخراج جل المهمشين من مناطق التهميش عبر التعليم وخلق فرص الارتزاق وتشغيل كل المصاعد الاجتماعية المعطبة لا إبقائهم في دوائر التهميش وجعلهم محتاجين باستمرار للإعانات العمومية والخاصة .
لم ندرك بعد في تونس أن لكل دور اجتماعي ثمن وانه لا سياسة اجتماعية ناجعة للدولة دون إقحامها في تصور اقتصادي قادر على الدوام اي قائم على عقلانية الاستثمار بأقصى نجاعة ممكنة .
إن إغراق الدولة بالأعباء وبالنفقات الاجتماعية الفاقدة لكل مردودية اقتصادية حتى على المستوى البعيد إنما هو سير حثيث نحو الإفلاس ..
في تونس مازالت حجب الايدولوجيا والأوهام القاتلة تزيّن لنا الطريق الخطأ وتجعلنا نعتقد بأن الدولة قادرة على تشغيل الجميع وأن الأموال موجودة وما علينا إلا أن «نغرف» فقط من جيوب الأثرياء والمتهربين ضريبيا والمهربين ..
المطلوب من حكومة الفخفاخ ليس فقط إجراءات لمقاومة مخلفات أزمة الكورونا بل أيضا وقبل كل شيء خطاب المصارحة والعقلانية ورسم حدود الممكن من الوهم والخيال والحث على العمل ثم العمل والعمل وان لكل إصلاح كلفة وغاية ونجاعة وانه لا يمكن تصور غاية اجتماعية دون كلفتها المالية ونجاعتها وديمومتها كمنظومة اقتصادية..
أزمة تونس هي أزمة ثقافية وأخلاقية ،بالمعنى العميق للمفهومين ،قبل أن تكون أزمة اقتصادية واجتماعية ..
في بدايات الإصلاح: القطع مع الأوهام القاتلـة
- بقلم زياد كريشان
- 11:37 03/06/2020
- 1814 عدد المشاهدات
تستفيق تونس تدريجيا بعد أزمة الكورونا على وقع أزمة اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة في تاريخها المعاصر،