أثارت الصدمة والشفقة لدى شقّ من التونسيين، والاستياء والشماتة لدى شقّ من الأخلاقويين الّذين استفزّهم «شرب الخمر» في أولّ يوم العيد ولم تتحرّك مشاعرهم لرؤية الشباب البائس الذي فقد الأمل في الحياة والذي عاش على الهامش يبحث عن مسكّنات. ولكن هل تكفي ردود الفعل الانطباعية والمغرقة في الانفعالية لمواجهة الواقع المرّ؟
لنترك جانبا أحكام الحلال والحرام، والمحمود والمرذول، والشرعيّ وغير الشرعيّ، والمرخصّ والموازي... ولنتأمّل في جذور المشكلة التي تتجاوز تقييم سلوك بعض الأفراد إلى التساؤل عن هويّة هؤلاء وعن موقعهم في المجتمع وفي سياسات الدولة؟ فمن هي هذه الفئة من الشباب التونسيّ، والمحسوبة على جيل ما بعد الثورة؟
إنّهم المغيّبون في الخطاب السياسيّ والمهمّشون في سياسات الحكومات المتعاقبة، وغير المرئيين في تدخلات نوّاب الشعب وحساباتهم الضيّقة. وهم المنسيون غالبا، في الخطاب الإعلامي والثقافي والأكاديميّ لأنّهم ببساطة لا يمثّلون «أولاد مفيدة» ولا «الشباب السلفيّ الجهاديّ» ولا «الحرّاقة» ولا محترفي الإجرام والتهريب... إنّهم على ما يبدو، غير المسيّسين وغير المتحزّبين وغير المؤدلجين وغير الانتهازيين... إنّهم ببساطة المتروكون في الخلف: خلف الصفوف التي يحتلّها شباب انضمّ إلى حزب قويّ فكان مشمولا بالرعاية والتكوين ومستفيدا من الامتيازات (شباب حزب النهضة) أو خلف الفئة التي أفادت من «تدخلات» القريب والبعيد فكانت محظوظة أو خلف الشباب الذي انخرط في مسار تعليميّ أو في الجمعيات فكان محصّنا إلى حدّ ما، من الوقوع في هذه الانحرافات ... والحديث عن التموقع الإجباري والمفروض: في الخلف يجرّنا بالضرورة إلى الانتباه إلى مختلف السياقات( الاقتصاديّ والسياسي والاجتماعيّ...) التي جعلت هذه الفئة من الشباب سجينة هذا الموقع الخلفيّ تعاني «الحقرة» وخاضعة لتراتبية معبّرة عن سياسات الفرز القاتلة.
وليس بوسعنا التمحيص في أسباب الإقبال على تناول «القوارص»: فقر، جهل، ضياع، مشاكل نفسية، هروب، بحث عن وجه من وجوه التسلية برفقة الأصحاب، رغبة في استبدال واقع مرير بما يشبه واقعا يتماهى فيه من لا يملك ثمن قارورة خمر مع من يملك ويتباهى بصورته وهو يحتسي الخمر المعتّقة في أبهى الكؤوس، حرص على امتلاك سلطة ما، دخلته فكرة أنّ استهلاك الكحول ينسجم مع السلوك الذكوريّ...غاية ما في إمكاننا فعله هو لفت النظر إلى أّنّ لجوء فئة من الشبّان إلى بدائل للخمر أو المخدرات المصنّعة بطرق عشوائية يتفشّى في إيران وغيرها من البلدان التي لا تكترث بمشاكل الشباب، وحيث لا تمثّل أرواح الضحايا إلاّ رقما أو حدثا يذكر في بعض وسائل الإعلام أو مناسبة للشتم والإدانة. إنّها مجتمعات تمييزيّة عجزت عن تحقيق العدالة الاجتماعية ومواجهة مشاكلها الاجتماعية وأزماتها بكلّ جرأة. وبما أنّ كلّ الظواهر ذات صلة بالسياسة ورسم السياسات فإنّ إفلاس النخب السياسية والنخب الثقافية والنخب الإعلامية وعجزها عن إيجاد مشروع حقيقيّ وتأدية واجبها على أفضل وجه قد أفضى إلى استشراء عدّة ظواهر: الانتحار والهجرة غير النظاميّة والجريمة المنظمة والاغتصاب والعنف المنزلي والتحرّش الجماعيّ... وهي كلّها تدور في نفس الدائرة.
لا أحد يتحّدث عن الحقّ في السلامة والصحّة النفسيّة، لا أحد يتحدّث عن كرامة المواطن حيّا وميّتا، لا أحد معنيّ بإنقاذ هذه الفئة من الشباب الّذين فقدوا الثقة في النفس وفي الآخرين بسبب عمق الفجوات الاجتماعية، والطبقية والجيليّة، لا أحد يكترث بمن تركوا خلفنا بسبب طرق التنشئة التقليدية والعلاقات الأسرية والاجتماعية غير السويّة، وهيمنة الأنظمة السياسية الفاشلة والمناويل الاقتصادية الشرسة، والفردانيّة القاتلة، والسياسات التعليمية المفلسة ...
ولأنّنا سرعان ما ننسى ونمرّ إلى الحدث الموالي فإنّ ما يبقى في الذهن، وإلى حدّ الساعة: صورة ضريح تتجاور مع صورة جدران بيت بائس وتعليقات فايسبوكيين تفضح الخواء الروحيّ وتعرّي واقعا انعدمت فيه القيم الإنسانية وغاب فيه الضمير فكانت الصفاقة.