حول «الإسلام التونسي» I - بدايات التشكل التاريخــــــــــي

سوف يبقى شهر رمضان لهذه السنة في ذاكرة كل التونسيين وجل العرب والمسلمين أيضا لما رافقه من اجراءات استثنائية في دول اسلامية عديدة لمجابهة جائحة الكورونا.


ولكن رغم ذلك يبقى لرمضان طعما خاصا اذ يمثل الطقس الديني الاكثر جماعية واحتفالية داخل العائلة وخارجها وهو يهيكل كل حياتنا على امتداد شهر كامل وذلك ايا كانت قناعات الافراد وطرق عيشهم، في هذا الشهر بالذات يعود الحديث عن اشكال التدين المخصوصة وبما نسميه نحن في بلادنا منذ مدة « الاسلام التونسي » مشيرين بذلك الى خصوصية مفترضة والى طريقة ما في ممارسة الشعائر الدينية والى علاقة ما بالمقدس وبالتراث الديني واصفين دوما هذا « الاسلام التونسي » بالوسطية والاعتدال والانفتاح بل وحتى بالعقلانية احيانا ونقابل ـ خاصة هذه السنوات الاخيرة ـ بين هذا الاسلام التونسي الاصيل وبين الاسلام السلفي الوهابي الوافد الغريب عن تقاليدنا وعاداتنا بل والمعادي لها والمهدد لوحدتنا الثقافية ولما نعتبره بنظرتنا للعالم ، اي نظرتنا للوجود وللانسان ولكل الاسرار الحافة بهما.

عندما نسعى لفهم ما يخفي مفهوم « الإسلام التونسي » نصطدم بصعوبات جمة اهمها كيف نقحم تحت مسمى واحد جملة من الممارسات والعادات والمعتقدات المتغيرة واحيانا المتنافرة بين جهة واخرى وبين جيل وجيل وهل ان هنالك ما يكفي من خصوصيات جوهرية لنتحدث عن « اسلام تونسي » مقابل « اسلام جزائري » او « اسلام ليبي » على سبيل المثال اي هل ان تونس كفضاء لتجربة تاريخية قد اثرت على ممارسة ديانة بعينها وبيأتها بشكل كاف يسمح لنا باطلاق مفهوم جامع لشتات من العادات والتقاليد والممارسات الجماعية والفردية عبر التاريخ؟

إشترك في النسخة الرقمية للمغرب

اشترك في النسخة الرقمية للمغرب ابتداء من 25 د

لا يمكننا في هذه الاسطر المعدودات الاجابة عن كل هذه الاسئلة التي تتعلق بالتاريخ الثقافي لتونس وتاريخ مخيالنا الجماعي ولكن نريد فقط الاشارة الى بعض مواضيع الغموض أو الامكانيات المتاحة للتفكير في هذا المفهوم الشاسع، «الإسلام التونسي» بطرق مختلفة.

لو ننظر الى التاريخ الديني والثقافي لتونس وللمراحل الاساسية في تشكله لامكن لنا ارجاع النواة الاولى لما نسميه اليوم بالاسلام التونسي الى الدولة الحفصية حيث بدأنا نرى بوضوح التمايز والتمازج بين مستويين من الممارسة الدينية: الاسلام الشعبي من جهة والذي سيتغذى اساسا من الانتشار المتفاقم للطرق الصوفية في الارياف والقرى والمدن وفي المقابل الاسلام المؤسساتي وفي الدور المتعاظم الذي لعبه جامع الزيتونة لتوفير جزء من نخبة العلم والتدريس والادارة والقضاء، اي جزء من النخب الحاكمة، دور يتزايد رغم المنعرجات السياسية منذ استقرار دولة بني حفص في القرن الثالث عشر الى ميلاد دولة الاستقلال سنة 1956 وما صاحبها من اصلاحات هيكلية اضعفت كثيرا هذا الدور بتوحيد القضاء والتعليم تم بغلق جامع الزيتونة كمؤسسة دينية لتكوين اجزاء هامة من النخب الصغرى والوسطى والعليا والابقاء عليها فقط كمسجد جامع لاداء الصلوات ثم تعويضها بكلية الشعريعة ذات الادوار الاجتماعية والايديولوجية المغايرة تماما، في البداية على الاقل.

لا يتسع المجال هنا للتعمق كثيرا في النشأة التاريخية لما يسمى بالاسلام التونسي ولكن يمكننا ان نقول بسرعة ان البداية كانت بصدام خافت احيانا وقوي في فترات الاخرى بين مشروعيتين دينيتين: الاسلام العالم المؤسساتي والتي تنتمي فئاته العليا الى طبقات الحكم تحت ما كان يعرف بتحالف السيف (السطلة السياسية والعسكرية » مع القلم ( السلطة الدينية الرسمية) في مواجهة الاسلام الشعبي الطرقي ومراكزه الجديدة المنتشرة في كل البلاد: الزوايا وماكان يكال لهذا الاسلام الشعبي الطرقي من تهم تتعلق اما بفساد العقيدة ( وحدة الوجود التي يقول بها باشكال مختلفة كبار مشائخ التصوف) أو بفساد الاخلاق وما يشاع عن الاختلاط « غير المحمود » في الزوايا وعن ممارسات تستنكرها الارستقراطية الدينية الزيتونية.
ويكفي أن نعلم الصعوبات التي تعرض لها بعض كبار مشائخ التصوف في بدايات العهد الحفصي (القرن الثالث عشر ميلادي) لنعلم حدة هذا الصراع على المشروعية الدينية ولا أدل على ذلك من اضطرار ابي الحسن الشاذلي ـ الذي نترنم باسمه الى اليوم ـ مغادرة افريقية (تونس) الى مصر حيث سيكون له صيت واي صيت ().

وفي الحقيقة بقي يحمل «الإسلام التونسي» هذا الشرخ في طياته قرون عدة بين الاسلام الشعبي طرقي وبين اسلام مشائخ الزيتونة وذلك رغم حصول ما يمكن ان نسميه بالمصالحة التاريخية بين هذين الاسلامين المتنافسين وذلك عندما قبل الاسلام العالم الارستقراطي بالاسلام الشعبي الطرقي في ظل توليفة ايديولوجية جديدة اصبحت المميز لكامل الاسلام المغاربي وقد عبر عنها الفقيه الشاعر المغربي الشهير ابن عاشر في متنه المسمى بالمرشد المعين على الضروري من علوم الدين والذي يلخص فيه شعرا ما يمكن ان نسميه بالإسلام المغاربي حيث نجد في بدايته «في عقد الاشعري وفقه مالك ± وفي طريقة الجنيد السالك» ومتن ابن عاشر المكتوب في بداية القرن السابع عشر ميلادي يمثل خلاصة التوليفة الدينية التي تبنتها الزيتونة اهم مؤسسة دينية مغاربية انذاك مع جامع القرويين بالمغرب، ومفادها ان الاسلام التونسي الذي تدعو اليه الزيتونة يقوم على العقيدة الاشعرية والتي فرضت نفسها شرقا وغربا كالعقيدة الرسمية لاهل السنة والجماعة وهي محاولة صياغة كلامية مستمدة من الشكلانية الاعتزالية لصياغة لاهوتية لمعتقدات اهل الحديث، وهي العقيدة التي فرضها الموحدون ـ مع

بعض التصرف ـ على كامل مناطق سيطرتهم بما في ذلك افريقية، كما تؤكد هذه الثلاثية الهيمنة الفقهية للمذهب المالكي الذي لا يكاد يجد له منافسا في كامل المنطقة المغاربية باستثناء بعض الاحناف الوافدين خاصة مع العثمانيين وبعض الفرق الاباضية المستقرة في تونس (جربة) والجزائر (منطقة المزاب) اما العنصر الثالث لهذه الثلاثية الاعتقادية فهو اقحام التصوف عبر احد اكبر شيوخه في العالم السني العربي، الجنيد امام المذهب في القرن الثالث للهجرة، اي ان الاسلام الشعبي الطرقي وان بقي اسلام العامة ولكنه لم يعد في عداء مع اسلام الخاصة بل اصبحنا نرى جل مشائخ الزيتونة ينتمون للطرق الصوفية ويفاخرون بذلك بل اصبح بعضهم من شيوخ الطرق. ولكن كيف تعامل هذا الوعي الديني ثلاثي الابعاد مع صدمة الحداثة وكيف دخل فترات الاصلاح المضطربة التي سعت لايجاد اجوبة امام تحديات الاستعمار والفكر الغربي الغازي؟ وهل مثل هذا الاسلام التونسي الوجه المعتدل المستنير في ثقافتنا كما نعتقد ام لا؟

يتبع

--------
() راجع كتاب الاستاذ هشام عبيد : «نشأة الطريقة الشاذلية بافريقية قراءة جديدة » ـ دار نقوش عربية.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115