ما بين الدولة والقطاع الخاص: حتى لا نهدم أثناء الكورونا ما نريد بناءه بعدها

الأزمات الكبرى، كهذه التي نعيشها ويعيشها العالم الآن، تكشف المستور وتبين النقائص وتزيل الحجب عما يقبع داخل المخيال الجماعي.

ما بيـن ما يكتنز الدمـــاغ الزواحفــي (le cerveau reptilien) عندنا هو التعارض شبه المطلق بين الدولة، الممثل الشرعي الوحيد للاداراة العامة، والفرد باعتباره لا يستطيع التخلص من انانيته الانطولوجية، وان المصالح الفردية ينبغي ان يضحى بها لمصلحة عامة هلامية لا تتاسس على التفاوض والحوار بل على منطق القوة النازلة من فوق الى تحت.
ولعل التجلي الاكثر فلكلورية لهذا المخيال الجمعوي هو الاعتقاد بان ازمة الكورونا هي الفرصة السانحة لـ«إهانة» راس المال وتمريغ انفه في التراب تحت شعار «ادفع عن طيب خاطر او سنفتك منك مالك بالقوة» ثم نسارع الى التخفيف من حدة وعنف هذه الفكرة بالقول بضرورة التضامن يعني ان يعطي الغني من ماله لفائدة المجموعة اوطنية إبان الازمة.
لا شك ام كل المواطنات والمواطنين مدعوون للتضامن والتآزر زمن الشدائد وكذلك فيما نعتبره الوضع العادي لان ازمات البلاد الجوهرية أعمق واخطر احيانا من جائحة ستغادرنا اليوم او غدا ايا كانت اثارها المدمرة صحيا واجتماعيا واقتصاديا..

جل نخبنا الفكرية والسياسية (بالمعنى العام الواسع للكلمة) قد تأثرت –بوعي أو دون وعي- بذلك الشعار الشهير الذي اطلقه الاشتراكي الفرنسي برودون في القرن التاسع عشر «الملكية (الفردية طبعا) هي السرقة» ويكون بالتالي كل افتئات عليها متطابق كليا مع «الوضع الاستثنائي» ويصبّ مباشرة في «المصلحة الوطنية العليا».
ولكن نفس الاصوات –تقريبا – هي التي تطالب بعد ثوان قليلة الرأسمال المالي «الوطني» بالاستثمار لخلق مواطن الشغل حتى لا تخلف الازمة الصحية التي نعشها الان ازمة اقتصادية واجتماعية قد تتبخر بالتالي معها مئات الالاف من مواطن الشغل ويعود بالتالي عدد هام من مواطنينا الى الفقر.

كاتب هذه الاسطر لا يعتقد في النقاوة الاصلية لرأس المال ولا يقدس السوق وقوانينها المفترضة ويؤمن بان الرفاه لا معنى له الا اذا كان واقعا معيشا متاحا للغالبية الساحقة من المواطنين،وان العدالة الجبائية والاجتماعية وتساوي الفرص الحقيقي علميا ومعرفيا وماديا هي الاسس الرئيسية للعيش المشترك. ولكن الاشكال عندنا في المنهج وزاوية النظر، هل نريد ان نجعل من جموع التونسيين موظفيين عند الدولة ام نريد ان نرعى المبادرة والمخاطرة والابداع وخلق الثورة والقيمة المضافة؟ هل ان النجاح الاقتصادي والمادي جريمة لا بدّ من معاقبتها ام ان الدولة تعاقب فقط الجريمة والخروج عن القانون سواء كان الجاني غنيا او معدوما؟
بعبارة اخرى هل قبلنا نهائيا باقتصاد السوق مع ضرورة تعدليه وترشيده ام مازلنا نحن الى نوع من الاشتراكية الحكم فيها والجاه والنفوذ للبيروقراطية؟.

ان من اسوإ ما شهدناه هذه الايام الاخيرة هو الاستهداف الظالم لفئتين من المجتمع: الموظفون ورجال الاعمال الحال اننا بحاجة الى الاثنين اليوم وغدا.

ولكن كل ما سبق لا يعني انه من حق هذه الفئات ان تفعل ما تريد؟ بالتأكيد لا، اذ بقدر ما ينبغي ان ندعم المؤسسة الاقتصادية المنظمة والتي تسعى للارتقاء في سلم القيم بتحسين انتاجية كل العوامل من رأس مال وحوكمة وقوة عمل وابداع وابتكار، بقدر ما ينبغي ان نقاوم راس المال الريعي والطفيلي والجامد في البناءات والعقارات... فلرأس المال وظيفة اجتماعية اساسية وهي الاستثمار وخلق القيمة المضافة، اما عندما يتحول الى ثراء شخصي محض ولا يدخل في الدورة الانتاجية بطريقة من الطرق فعندها من حق المجموعة الوطنية ان تفرض الضرائب الملائمة على رأس المال النائم او الطفيلي..

نحن نحتاج لكل قوى الانتاج ولكل الذكاء الكامن في المجتمع حتى ننهض باقتصادنا من جديد بعد ازمة الكورونا وحتى نشرع في الاصلاحات الضرورية، اصلاح الدولة اولا واصلاح الجباية والمراهنة على المستقبل بإصلاح جذري وشامل للتعليم حتى نخطط من الان للارتقاء الجدي والقوي في سلّم القيم، وهذا كله لن يكون ضد رأس المال المستثمر أو المساهم في خلق الثروة ومواطن الشغل والقيمة المضافة العالية بل سيكون معه وبه ايضا.

لابدّ من القطع مع عقلية تجريم النجاح الاجتماعي والمالي والاقتصادي بل لابدّ من البناء على هذا النجاح شريطة الا يكون حكرا على جهات او عائلات بعينها بل ان يكون افقا متاحا لجميع التونسيين مهما كانت اصولهم الجهوية والاجتماعية والعائلية. الخطر كل الخطر هو في عطالة المصاعد الاجتماعية الدراسية والاقتصادية والمهنية، اما لو حققنا هذا الاصلاح الاكبر بايجاد حركية اجتماعية مستمرة تتنافس فيها كل الجهات والفئات بحظوظ متقاربة... فعندها نكون قد وفرنا شروط امكان ان يشترك التونسيون في رفاه متصاعد لا ان يتقاسموا الفقر والخصاصة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115