وحدها المسؤولة عن إخبارنا بما يجري هناك؟
لو كان الأمر كذلك لقلّ توتّر النوّاب وتحمّسهم للمساهمة في العروض البهلوانيّة المختلفة التي تقام بين الحين والآخر بمناسبة محاسبة هذا الوزير أو ذاك أو تمرير هذه الحكومة أو تلك، ولضعف أداؤهم على الركح وتغيّرت قواعد العمل السياسيّ.
ولو حدث هذا لما تنافس النواب على «إبراز عضلاتهم» صياحا وشتما، وقوفا وجلوسا، تكفيرا وتخوينا ... لو تقدّم الخطاب المسموع على الخطاب المرئيّ لتغيّرت قواعد التلقّي وقلّت درجات هيمنة الصورة و تبدّلت معايير الانهمام بالذات والبحث عن التمركز وثقافة «السلفي».
وحدهم المتطفلون على السياسية من يهيمون بذواتهم ويعوّلون على الميديا لبناء صورهم والتأثير في الجموع ... ولأنّهم صدّقوا أنّهم أصبحوا بالفعل «سياسيين مرموقين» فإنّهم يهتمون بمظهرهم ، وبالقشور ورجع الصدى، وبشكل ممارسة السياسية وطرق تحويلها إلى مهنة «la politique comme métier» كلّ ذلك على حساب المضامين وخدمة الشعب والفعل في الواقع. فيكون أداؤهم المسرحيّ مرتكزا بالأساس على الصفاقة،وسلاطة اللسان، والرياء،.والركاكة، والابتذال.. ويكون البحث عن مصالحهم و«غنمهم» الشخصي على حساب الجموع التي آمنت بهم. ولأنّهم ما اطلّعوا على فنون «الدراماتولوجيا» وما فقهوا لغة الترميز فإنّهم يمسرحون السياسة بطريقة سيئة فيكون العرض فاشلا ولا يحقّق الأهداف المرجوّة ولا نسبة المشاهدة العالية.
أمّا السياسيّون فإنّ رصيدهم الحقيقي لا يكمن في اقتفاء أثر مرئيتهم، والولع ببناء صورتهم بل في مهارتهم في نسج خطاب حجاجيّ مقنع، وقدرتهم على تجاوز عرض الذات إلى تقديم إنجازات تُحسب والتقيّد بسلوك نموذجيّ وممارسة فنّ الإبهار من خلال الثقافة المتينة. وهنا يلوح الفرق بين تمثّل la représentation كلّ فئة للذات وللعمل السياسيّ ولمسرحة الفعل السياسيّ. فالمترشح للعمل السياسيّ يراهن منذ البدء، على التأثير في الجماهير بالاعتماد على مقدار تعقّله للواقع وتحملّه للمسؤولية، وقدرته على البناء وخبراته ودرجة صدقه فيستبدل بذلك «بلاغة القول» والإنشائية وعرض الشعارات، وتحريك السواكن ببلاغة الفعل في الواقع ولعلّ روني الطرابلسي وسنية بالشيخ خير ممثّلين لهذا الطراز، ولكنّنا أمّة تنبهر بالخطابة وتعجب بمن له القدرة على تحريك العواطف...
إنّ السياسي الحقيقي مطالب هو الآخر، بمسرحة السياسة ولكنّه يمسرح العمل، والسلطة بطريقة مختلفة تثبت مهنيّة عالية. فنراه يتحّكم في مشاعره ويخضع خطابه للرقابة الذاتية ويحرص على بناء العلاقات المتوازنة مع الجميع، مبرزا في ذات الوقت، مدى قدرته على خدمة الوطن، مُظهرا الصفات التي تجعله ينتزع ثقة التونسيين واعترافهم بأنّه يمثّل مصالحهم ويدافع عنهم. والسياسيّ المتمرّس بفنون الأداء لا يشعر المتقبّلين بأنّه يلعب دورا أتقنه من سنوات لأنّه ببساطة دخلن تقنيات المسرحة بكلّ إتقان. إنّه القادر على التفاوض،ووضع الاستراتيجيات، وفرض إرادة الإصلاح بطريقة مرنة وتغيير المواقع متى اقتضى السياق ذلك وحسب قواعد البرغماتية. ولذلك يغادر السياسي المحنّك منصبه في الوقت المناسب، متى أدرك أنّ «الرياح تسير بما لا تشتهي السفن».
وبما أنّ الهيمنة الذكورية جعلت المجال السياسيّ حكرا على الرجال مستثنية المواطنات(إلاّ بعض النساء) فإنّه لا مجال، على الأقلّ الآن، للتمحيص في طرق مسرحة «السياسيات» للعمل السياسيّ، والنظر في أشكال حضورهنّ وطرق الأداء ونظم الخطاب...
ليس المهمّ في الديمقراطية التمثيلية أو التشاركية أن نحوّل البرلمان إلى حلبة لصراع الثيران، وفضاء لصناعة مشهديّة يتداولها الفايسبوكيون... الأهمّ من كلّ ذلك الانتقال بالسياسة من فنّ عرض الذات وأداء أدوار مختلفة وفق السياقات، والتلاعب بوعي الجماهير وعواطف المشاهدين la mise en scène إلى فنّ الفعل في الواقع la mise en œuvre عبر ابتكار الحلول وتقديم البدائل وتطبيق القانون، واحترام آليات العمل من أجل إنقاذ البلاد فالتونسيون ما عادوا يرغبون في ‹الفرجة› وإنّما في العيش.