وكشف البعد الحقيقي لمخرجات هذه الازمة الّتي انطلقت من تغيير لم يكن الشعب الليبي ينتظر منه الدّخول في صراعات داخلية تحرمه من حياة هادئة وآمنة .
لقد كان من المؤمل بعد تعثّر إيجاد الحلول الكفيلة بتصفية الخلافات الدّاخلية اللّيبية بسبب عدم التوصّل إلى حلول توافقية بين مختلف الأطراف ، التعويل على دور مغاربي بمعية مصر ،حتى تبقى منطلقات الحل و بوادره في إطار مساعي المعنيين باستقرار المنطقة و مصالح شعوبها و في مقدمتها مصلحة الشعب اللّيبي .
لذلك بادرت تونس بالسعي إلى خلق دينامكية ،باختضان حوار ليبي – ليبي لأول مرّة في تونس ، ثم توسعت المشاورات في بداية سبتمبر 2015 بحضور مصر والجزائر و الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة و رئيس بعثة الأمم المتّحدة للدعم في ليبيا مارتن كوبلار.
و لكن فشلت كل المساعي الأولى بالرغم من أن تونس أرادت أن تبرهن على حيادها الإيجابي بخصوص معالجة ليبيا الشؤون الدّاخلية، و ذلك بدفعها للمتنازعين نحو التقارب ، متجنّبة الإنحياز لهذا الطرف او ذاك. و على أساس نفس الموقف أرادت تونس توفير أرضية مشتركة بين جميع دول الجوار تؤمن مصالح الجميع في الأمن والإستقرار .
في الوقت الّذي بات فيه الوضع متجها نحو مزيد من التباين و التعفّن، بدخول تركيا في النزاع الدّاخلي بإبرام إتفاقية مع حكومة السراج ، ثم بدأ دخول هذا الاتفاق حيّز التنفيذ ، مقابل تحرّك قوات حفتر و بداية المعارك بأكثر حدّة ، جاء مؤتمر برلين ، ليُعيد طرح الأوراق ، بإشراف الامم المتحدة و تحت رقابتها بحضور القوى الّتي أُعتبرت فاعلة في المنطقة و القوى الراعية لمصالحها الكبرى في المنطقة من منظار استراتيجي. هذا لم يكن بالإنحياز إلى هذا الطرف أو ذاك ، أو بالتدخل العسكري ، وإنّما جاء تحت يافطة ضمان حرمة التراب اللّيبي و سيادة واستقلال ووحدة ليبيا على أن يكون ذلك بواسطة اللّيبيين انفسهم، و رفع شعار الإعداد للتحول الديمقراطي في ليبيا طبق خارطة طريق جديدة .
بهذا المنحى سعى المشاركون في مؤتمر برلين إلى نزع فتيل الحرب في ليبيا ،و هو حل عاجل لإبقاء الحال على ما هوعليه مؤقتا ،و محاولة وقف الخطة التركية في فرض حل بواسطة التدخل المباشر ، في انتظار تفعيل بقية المساعي الّتي عدّدها بيان برلين لتنقية المناخ اللّيبي .
إن تمشي قمّة برلين يهدف إلى تجنب حرب استنزاف شبيهة بما حصل في سوريا ، و هو ما يعني بدرجة أولى ،تجنب العواقب الكارثية على الثروات النفطية و وقف تدفقها و أثارها المحتملة على مصالح الدول الغربية ، فضلا على العواقب الإنسانية للحرب و ما ينجم عنها من هجرة و إنعدام أمن و مزيد ترعرع قوى الارهاب ومزيد تعميم الفوضى .
لقد سبق أن أكدنا أن الحل اللّيبي محكوم بديناميكية داخلية و إقليمية و دولية ، الأمر الّذي يفرض على دول المنطقة أن تقدّر كل العناصر حق قدرها ، لإنجاح أي مبادرة رامية لحل الأزمة اللّيبية . فالنزاعات الدّاخلية تحكمها معادلات متعدّدة بدءا من المعطيات القبلية و العشائرية ،مرورا بالنوازع الدينية و السياسية ، نهاية بالمعطيات العسكرية والأمنية و مصالح الدول الغربية الّتي تدخّلت في التغيير السياسي في ليبيا ، والّتي تريد أن تبقى دائما جزءا في أي حل .
كما سبقت الدعوة في جريدة المغرب إلى العمل على مزيد تنشيط الجبهة المتشكّلة من دول الجوار و قواها المتبنية للقيم و المبادئ الديمقراطية و سيادة القانون ، و ذلك لحل الأزمة الليبية و لوضع خطّة تشاركية إستراتيجية ، لتشكيل حزام واقي من المخططات الإرهابية والأطماع المتربّصة بدول المنطقة، و تفعيل كل سبل التعاون في إتجاه خدمة المصالح الآنية المشتركة و رسم الخطط الكفيلة بتحقيق أهداف إستراتيجية لضمان الإستقرار و النماء الإقتصادي لدول المنطقة.
هذا المطمح لا يمكن أن يتحقّق دون وعي الدول المغاربية بالمخاطر الّتي تهدّد المنطقة من تعفّن الأوضاع في ليبيا و تأجيج الحرب داخلها، و هذا يعني أن التشاور بين دول المنطقة بصورة دائمة و مستمرة ،أمر حتمي ، بقطع النظر عن «الاختلافات السياسية العرضية» الّتي قد تحدث بين الفينة والأخرى بسبب اخطاء دبلوماسية و تقديرات خاطئة.
إن النظرة الاستراتيجية لأمن المنطقة و سلامة ترابها ، فوق كل الاعتبارات الظرفية لذلك يجب التفطّن إلى محاولات التفرقة بين دول الجوار ، فيقع تجاهل دعوة تونس في مؤتمر يخص ليبيا ، و لكنه يخص أيضا تونس بصفة مباشرة كما يخص الجزائر و مصر . و لو أن الدعوة تصدر من المُضيّف الّذي قد يملي شروطه، كما حصل في مؤتمر برلين ، فإنه يكون للمدعو للمشاركة في قمّة تخص المنطقة ، أن يفرض حضور من يقاسمه نفس المخاطر و نفس التهديدات و خاصة إذا كان يشترك معه في نفس الحدود .
لقد كان من المفروض ألا تصل الشقيقة ليبيا إلى ما هي فيه ، كي تحتاج إلى عقد مؤتمرات خارج ترابها، ولتضطرّ إلى وساطة أي كان لحل خلافات تخصّها ، خاصّة وأن الآليات الديمقراطية كانت و ما زالت في متناولها . و حتى و إن فشلت في إيجاد حل لخلافاتها الداخلية ، فقد كان من الأفضل ، أن تكون تونس أو الجزائر أو مصر ، أرضا للتباحث حول الحلول الممكنة لتجاوز كل العقبات ، لأن دول الجوار معنية هي أيضا بأمن و سيادة واستقلال المنطقة و سلامة ترابها و شعبها.
إذن إذا كانت الآليات الديمقراطية طريقا إلى حل الخلافات الليبية -الليبية ، و إذا كانت دول الجوار متفقة على أمن ليبيا يعينها قبل غيرها ، فإن مواطني المنطقة يسألون عن هوية الجاري وراء البحث عن وساطة خارجية غير بريئة لتجاوز ما حلّ بها . الجواب عند سياسي المنطقة .