على كل الخيارات ،و لكن جرت الرياح بما لا تشتهي السفن كما يقال ، و وجدت المنطقة نفسها في وضعية قد يصعب المسك بخيوطها مستقبلا.
وقد يكون سبب الانصراف عن الشأن الليبي وعدم منح الموضوع الأهمية اللاّزمة لحماية جميع مصالح دول المنطقة و خاصة تلك الّتي لها حدود مباشرة مع ليبيا ، راجعا إلى سوء تقدير أبعاد الفشل في تنقية المناخ السياسي في ليبيا ، وكذلك إنشغال كل بلد بأوضاعه الداخلية، و هو ما ترك المجال للأطراف الساعية للهيمنة، والساعية إلى مزيد صب الزيت على الخلافات الداخلية، والمساهمة في تعفين الأوضاع لفتح المجال لنفسها لإستغلال الظروف لخدمة مصالحها الإقتصادية والتجارية .
لقد حاولت تونس في البداية عند عقدها لاجتماعات ولقاءات في تونس مع الفرقاء في ليبيا، تقريب وجهات النظر لإيجاد الحلول و هي محاولات سعى إليها الراحل الباجي قائد السبسي ، و لكن الصعوبات الأولى و ضغوطات الشأن الدّاخلي جعلتها تبتعد عن دائرة الفعل لحلحلة الأزمة .
إن ما يجمع تونس و الجزائر و مصر المعنيين بالملف اللّيبي ، ليست الروابط الاجتماعية والدينية و الجغرافيا في مفهومها الضيق فقط و إنّما أمن المنطقة و سلامة ترابها و حمايتها من كل ما يمكن أن يشكّل خطرا على شعوبها من أطماع القوى المهيمنة ،و من مواقف الأطراف الدّاخلية الّتي تسعى إلى فرض نمط سياسي يخدم مشاريع سياسية تسعى إلى الشد إلى الوراء بتفكير لا يخدم مصالح الشعوب . وكذلك مصالحها المشتركة مع بلد غني في الموارد الطبيعية يحتاج إلى إعادة البناء والإعمار وسد حاجيات السوق الداخلية .
لقد سبق أن دقت نواقيس الحرب سنة 2016 باحتمال تدخل غربي في ليبيا ، وفي مقدمته الولايات المتحدة الأمريكية ، الّتي كانت تحبّذ أن يكون ذلك بطلب من سلطة ليبية شرعية و تحت غطاء أممي، ولكن لاقى هذا الموقف معارضة شديدة لتضارب مصالح الدول الغربية في ليبيا و هاجس اقتسام كعة ثرواتها و كذلك لغياب الحاضنة المتاخمة لليبيا و الموقف الجزائري الرافض بشدة للتدخل العسكري و المتمسك بحل سياسي عبر حوار وطني ينتهي بتشكيل حكومة وحدة وطنية .
إن «تأجيل» الحرب في ليبيا و تواصل الخلافات بين الفرقاء الليبيين لم يكن مزعجا -في الحقيقة- للبلدان الغربية طالما لم يقع المساس بمصالحها في تدفق النفط وفي بيع الأسلحة و استخلاص ديونها بشتى الطرق . ولكن تركيا الّتي تعد قوة عسكرية متماسكة ولها روابط تاريخية سابقة في المنطقة ، تعيش ضيقا اقتصاديا إن لم نقل حصارا ،يقودها إلى البحث عن كيفية مزيد تعزيز نفوذها لفرض أخذ حصّتها في ليبيا ،وضمان مصالحها في المنطقة لذلك سعت طوال السنوات الماضية ، إلى أن يكون لها تأثير سياسي عبر ورقة تتميز بها وهي ورقة ما يسمى بالإسلام السياسي ، والتقارب «العقائدي» والخلفيات الثقافية الّتي صمدت في مخيال مجتمعات المنطقة وتغذت بغزو المنتجات الدرامية الدعائية لكل البيوت .
إن العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية بين تونس وتركيا قديمة وقد شملت عدّة مجالات ، ولكنها أخذت منحى جديدا في عهد الترويكا في مرحلة أولى و تواصل ذلك في ما بعد بالعمل على لعب دور سياسي بواسطة حركة النهضة، وهنا نذكر مثلا دورها في ترتيب لقاء بين حافظ قائد السبسي و أردوغان في 12 أوت 2015، بعد أن اعتبرته شخصية يمكن المراهنة عليها مستقبلا. وكانت النهضة المدافعة دائما على الشراكة مع تركيا ، و لم تدعم مواقف المنادين بخلق التوازن في العلاقات الاقتصادية بعد أن تفاقم عجز الميزان التجاري معها ، كما كانت وراء دعمها السياسي بخصوص الأوضاع في سوريا و دعم كل الأطراف المناهضة لسوريا ولمختلف التشكيلات المتشدّدة والإرهابية .
الملاحظ أن موقف النهضة الحائزة على أكبر عدد من المقاعد النيابية ، لم يتغيّر بخصوص قربها سياسيا من حزب العدالة و التنمية الماسك بمقاليد الحكم في تركيا، والدليل على ذلك ملازمتها الصمت إزاء الإتفاقية الليبية التركية و إزاء ردود الفعل على الزيارة الأخيرة للزعيم التركي لتونس و كذلك إزاء الحشد النفسي و العسكري الّذي يقع إعداده لإشعال فتيل الحرب في ليبيا و في المنطقة .
إن الموقف الذي يمكن أن يكون محل ترحيب وتمويه ، هو الموقف الّذي يقرّب الفرقاء ويساهم في تجنب تفاقم النزاع و عدم اللّجوء إلى القوة و السلاح . ومن المفروض أن ألاّ تنحاز تونس وقواها السياسية إلاّ إلى خيار الحل السلمي ، وألا تكون داعمة لأي عدوان و فرض الحلول بقوة السلاح.
إن تونس معنية قبل غيرها بأي تدخّل عسكري في ليبيا ، لأن حصول ذلك لا يضرّ فقط بمختلف فئات الشعب اللّيبي ، بل ستكون له أيضا تداعيات خطيرة على أمن تونس وعلى أوضاعها الدّاخلية . لأن نشوب الحرب سيؤدّي حتما إلى الهجرة القسرية للمواطنين اللّيبيين العزّل و المهاجرين المقيمين لديها و إلى هروب عناصر من تنظيمات مختلفة خطرة ، وهو ما يعني نقل بؤر توّتر جديدة يصعب تقدير تبعاتها .
كل هذا يتطلب أوّلا و قبل كل شيء تقوية الجبهة الدّاخلية واليقظة وإتخاذ الإحتياطات اللاّزمة و التوقّي من مختلف المخاطر، إمساك الساهرين على أمن تونس وسلامة أراضيها وحماية مصالحها ، للملف بالجدية اللاّزمة. نقول هذا لأنه وقع التنبيه إلى تبعات الإتفاقية اللّيبية التركية على تونس منذ إمضائها ، ولكن تأخرت ردود الفعل بشأنها من كل التنظيمات السياسية التونسية تقريبا ومن الجهات الرسمية. وأما بعد أن أصبح الحديث يتعلّق بدعم عسكري تركي مباشر للقوات المالية للسراج ، ولدق جديد لنواقيس الحرب فقد عاد الوعي بخطورة ما ينتظر بلادنا ودول المنطقة ذات الحدود المشتركة وخاّصة الجزائر الشقيقة ذات الارتباطات الوثيقة بتونس و الدول المعنية بالحدود البحرية بالبحر الأبيض المتوسط.
من هنا يعود الحديث عن ضرورة تنسيق الجهود بين الدول المعنية للعودة إلى البحث عن سبل تجاوز خلافات مختلف الأطراف اللّيبية و دفعهم إلى الرجوع إلى الحوار لتجنّب سفك الدماء بين أبناء الشعب الواحد ،و حثهم على البحث عن حل سياسي دائم بدل الانسياق وراء حرب لن ينتفع منها غير تجار السلاح والطامعين في ثروات ليبيا و في الهيمنة على المنطقة.