في طرق استقبال مبادرات الشباب

كيف تفاعل التونسيون مع حملات النظافة ومحاولة تغيير ملامح «الفضاء المادي»؟


لقد رأى البعض أنّها لا تخرج عن عباءة التوظيف الأيديولوجي إذ أنّ من تجليات الإسلام السياسي الاستحواذ على الفضاء العمومي، و العمل على تغيير معالم المكان «الأليف» والسعي إلى امتلاكه ومعنى هذا أنّ المبادرات هي عمليّة تصرّف الذاكرة الجمعيّة وتشويه مقصودة. وحجّة أصحاب هذا التفسير أنّ هذه الأفعال لا تخرج عن التكتيكات القديمة فهي موصولة إلى الخيمات الدعوية، واستعراض القوة الجسدية في الساحات العمومية وبيع العطور والعباءات أمام المساجد وغيرها من المظاهر التي عاينها التونسيون انطلاقا من سنة 2011. ولكن هب أنّ هذا التفسير له نصيب من الوجاهة فهل يكون الردّ بالبكاء والعويل والندب والصراخ «واحداثتاه» «واجماليّة المدينة ...؟ أليس النزول إلى أرض الواقع والعمل على تغييره أفضل من الملاحظة عن بعد والانطلاق في تأويل الفعل عن بعد دون السعي إلى التفاعل مع أصحاب المبادرات؟

وفي السياق نفسه ذهبت فئة من التونسيين إلى انتقاد هذه الأفعال «البشعة» التي تسيء إلى المعالم التاريخية والتي تدلّ على جهل أصحابها بتاريخ المعالم واستيطيقا الأمكنة وغيرها. ومالت فئة أخرى إلى «التنبير» والسخرية من خروج «الشباب الواعي» إلى العلن فإذا به يقيم الدليل على عدم وعيه بما يرتكبه من جناية على «المقدسات الجديدة». ولكن، إن سلّمنا بمحدودية ثقافة فئة من الشباب و«جهلهم» ألم يكن من الأجدر توجيه أصابع الاتهام إلى من تسبّب في خراب التعليم ؟ أليست إدانة أنظمة التنشئة الاجتماعية والتربية والتعليم والثقافة والإعلام هي السبيل الأكثر موضوعية من إدانة من اجتهدوا وفق زاد معرفيّ بسيط، وحاولوا الفعل ولم ترتكز أعمالهم على رؤية فنيّة؟ أوليس سلوك من تجنّوا على المعالم الأثرية يحمل أثر المؤسسات الاجتماعية فيهم؟ أما كان حريّا بالمستهزئين ب'البشاعة' أن ينضموا إلى الشباب وأن يعملوا على تأطيرهم ثقافيا؟

يتموقع أغلب المعلّقين في الوضع «المريح» une position de confort : الجالس في أريكته يتابع من وراء الشاشة ما يجري من حوله مصرّا على وضع حاجز بينه وبين ما يجري على أرض الواقع ، محافظا على «مسافة الأمان». فهؤلاء «الهمّج» لا يمكن «النزول» إليهم. وهكذا تتواصل عمليات بناء الجدران العازلة بين من يعتبرون أنفسهم في المركز وهم المعيار و أصحاب المعرفة والذائقة الفنية والرقيّ الحضاري... ومن هم في الهامش وكتب عليهم أن يظلّوا موضوعا للتمثيل و«التحليل».

لا يمثل الشباب كتلة متجانسة ولا يمكن الحديث عنه بصفة الإطلاقية مثلما يحلو للبعض فعله. فليست هموم من يرتاد أماكن الترفيه الراقية ، ويزاول تعليمه في المؤسسات الحرّة ذات الجودة متطابقة مع مشاغل من وجد في حملات التنظيف ما يدخل عليه البهجة ويحقّق له الشعور بالانتماء للوطن والعمل على تجسيد قيم التضامن والتآزر...ومن ثمّة لا نستغرب لامبالاة أعداد كبرى من الشباب الذين رفضوا المشاركة، ولم يستطيعوا تجاوز المحدّدات التي تتحكّم فيهم والتي رسّخت فيهم قيم الفردانية وأوهمتهم بأنّ المشاركة في الشأن العامّ والعمل التطوّعي...لا فائدة من ورائها ومن هنا وجب التفكير : لم ترسّخ أنموذج مراعاة مصالح الفرد والذات ومنطق الأنا بدل مبدإ النحن الجمعي؟

وبالرغم من كلّ محاولات الإحباط والتقليل من شأن كلّ المحاولات والتعامل معها وفق نظريّة المؤامرة فإنّ الشباب باعتبار أنه طاقة وقوّة معبّرة على الاختيار والفعل قد نجح في كسر بعض الحواجز وزعزع بعض المنمّطات.وليس رفض تفاعل من اصطفوا وراء معسكر الانتقاد والتجريح والإدانة والسخرية مع أصحاب المبادرات إلاّ حجّة على وجود أزمة تواصل ورفض بل كره لفئة من الشباب بعد أن حدث الفرز على قاعدة السياسية والأيديولوجيا والطبقة والعنصر ...

ونذهب إلى إنّ من خاض تجربة المعاينة والتفاعل المباشر مع الشباب قد استطاع أن يتحصّل على فهم مختلف للواقع. فأنا واحدة من الذين كان لهم نصيب من الفضول وإرادة الفهم (لينا بن مهني ، ليلى طوبال ... )جُبت الساحات وتنقّلت من مكان إلى آخر. فإذا بمظاهر الاحتفالية تعمّ الأمكنة ... مراهقون وشباب وكهول ومسنّون كلّ على قدر استطاعته يريد أن يقدّم شيئا للمجموعة...تختلط مشاعر الغبطة بالبكاء تأثرا بما يحصل...

إنّ فهم هذه الديناميكية لابدّ أن يرتكز على رصد فعل الفرد من أجل فهم المعنى الذي يضعه لأفعاله ثمّ البحث عن دوافع الشباب ورصد علامات وعيهم بأدوارهم في التغيير ، ودراسة سيرورة أفعالهم، وتحليل رمزيّة تفاعلاتهم والبحث عن مدى قدرتهم على الاستمرار، والأهمّ من كلّ ذلك احتضانهم لا إدانتهم، «استضافتهم» بدل لفظهم ... فطعم «الحقرة» مرّ.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115