ارتبطت منذ البداية على غرار ما هو متعارف عليه في الأنظمة المقارنة ، بالعدالة الإنتقالية، ولكنّها بقيت شبه مجمّدة و لم تنجز أي في مجال نشاطها. بل يمكن القول أنها أُستُبعدت في فترة الترويكا، قصدَا، لفسح المجال، إلى اعتماد آليات للتسوية والتعويض لتحقيق أهداف استقطاب وترضية آنية، شكّلت «موازيب» إنفاق كبيرة . ثمّ تحوّلت فيما بعد إلى رهينة حصول توافق بين خياريْ الطرفين السياسيين الماسكين بالسلطة: النهضة ونداء تونس، بمشاغبة متواصلة لهيئة الحقيقة الكرامة التي بقيت تترصّد كل ما تعتبره دخولا في نطاق اختصاصها لإفشال كل مبادرة مصالحة أو تصالح.
أول خيار للماسكيْن بالسلطة جاء بمشروع المصالحة الإقتصادية الّذي دعا إليه رئيس الجمهورية، ولاقى معارضة صريحة من البعض ومعارضة ضمنية من البعض الآخر، ولم يتمّكن مؤيدوه من تمريره أو تمرير جانب منه في قانون المالية، فتُرك على الرفوف مثله مثل العديد من المشاريع الّتي تُترك للزمن والضرورة عسى أن تتوفّر الظروف لإحيائها.
هذا الخيار الّذي لم تبد حركة النهضة حماسا له وهو ما يمكن اعتباره رفضا ضمنيا، أصبح اليوم قابلا للنقاش، بعد أن وجدت هذه الحركة الخيار الثّاني، وهو مشروع يدخل قي نطاق البرنامج الّذي تعوّل عليه لإرضاء مؤيّديها والمتعاطفين معها، وهو الّذي أعلن عن
تسميته السيد راشد الغنونشي بـ«العفو الوطني العام» أو ما اصبح يطلق عليه إسم العفو الشامل.
هذا المشروع المُعلن لم يقع تحديدُ نطاقه و لا بنوده ، و لكن رُمي به للرأي العام، في محاولة لجس نبض الشارع والرأي العام السياسي، قبل تأثيثه. ويبدو أن النهضة رتّبت مع حلفائها، إمكانية تمريره، سواء بالتوازي مع مشروع المصالحة الإقتصادية، أو باستيعاب أحدهما للآخر في نطاق توافق آخر، حتّى لا ينسب أي طرف لنفسه ملكية مشروع المصالحة السياسية الّتي ستكون رهانا للإستحقاقات القادمة.
إذن شعار المصالحة الذي بقى إلى حد الآن يحمل رصيدا «غامضا» يتسابق كل الأطراف على شحنه والمبادرة به، كي يكون زاد المعارك اللاّحقة.
ولكن حصلت المفاجأة بإمضاء أول اتفاقية تحكيم ومصالحة بين المكلف العام بنزاعات الدولة في حق وزارة أملاك الدولة والشؤون العقارية ومحمد سليم شيبوب بصفته طالب تحكيم ومصالحة طبقا لقانون العدالة الانتقالية، و ذلك تحت مظلة هيئة الحقيقة والكرامة يوم 5 ماي المنقضي وقد أمضى هذه الإتفاقية المبدئية كل من كمال الهذيلي المكلف العام بنزاعات الدولة وسهام بن سدرين رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة. هذه «الوثبة» ولو أنها اتفاقية مبدئية ، تعتبرها هيئة الحقيقة والكرامة، تسجيلا لأوّل إنتصار لها، خلافا لما حصل لها بخصوص نقل الأرشيف، وقد تكون نزلت بردا وسلاما على الأطراف الّتي أعدّت الأمر في الكواليس.
وهكذا فإن المصالحة التي «تُستهلك ساخنة «فقدت وهجها و حرارتها وستخضع لمقايضات وترتيبات سياسية ولتأثيرات دوائر النفوذ، وبالتالي لن تكون جذرية وإنّما ستكون عبارة عن تصالح خاضع لتنازلات تفرضها إملاءات اقتصادية واجتماعية وسياسية ظرفية.
أما موضوع الفساد ، فقد أصبح «كلاما في كل فم»، والكّل يرفع راية مقاومته، و لكن ما فتئ يستفحل، وبدا متعنّتا مثله مثل تلك الحشرات الّتي تتحدّى المبيدات فتتكاثر لكسبها المناعة بدل أن تندثر.
هذا المارد المتغوّل بقى يتحرّك بثبات ، رغم أن الهياكل الّتي وضعت لمقاومته لا تحصى ولا تعد ّ، و تلقى الدعم المعنوي من منظمات المجتمع المدني وتلقى الإمداد الماّدي بسخاء من عدّة منظمات دولية وأيضا من بعض الدول.
ففضلا على منظومة القضاء العدلي التي تتعهّد بالعديد من القضايا ، نجد وزارة خاصة تُعنى بهذا الموضوع، وهيئة دستورية مكلّفة بمقاومة الفساد والرشوة، ودائرة الزجر المالي ودائرة المحاسبات وهياكل الرقابة الإدارية على المستوى المركزي والجهوي، وكل هذه الهياكل تملك مفاتيح الوقاية والزجر في نفس الوقت. كما نجد عدّة جمعيات وبعض وسائل الإعلام الّتي تفضح بعض الممارسات وتشهّر بما توفّر لها من إمكانيات.
ولكن تسمع جعجعة ولا ترى طحينا، إذ تطالعنا بعض الهياكل والهيئات الرّاصدة لمظاهر الفساد والرشوة في تونس، بإحصائيات وأرقام تفيد تطوّر الظاهرة و لم تُشر إلى تقلّصها .
فإذا كان مثال المبيد بخصوص مقاومة الحشرات ، يكشف عدم فاعلية المواد المستعملة، فإنه بالنسبة لانعدام جدوى مقاومة الفساد ليس نقصا في القوانين وفي المعاهدات الدولية، بل إن الأمر ينمّ عن غياب عقلية جديدة محصّنة وعدم توفّر إرادة حقيقية في التصدّي والمعالجة، وهو ما يثير المخاوف بالدخول في طريق اللاّرجعة و تصبح الظاهرة في حدّ ذاتها مؤسسّة قائمة الذات لها قدرات الدّفاع عن ذاتها تملك سلطة شبيهة بسلطة المافيا .
وخلاصة القول أنه سواء تعلّق الأمر بالمصالحة أو بمقاومة الفساد ، فإن كل المقاربات ظلت سطحية وغير معمّقة، ممّا يجعلها آنية ، تغلب عليها الدعاية السياسية والتسابق نحو ادعاء الكسب، دون النفاذ إلى حد الآن، إلى المعالجة الفعلية لمتطلبات التنمية والإستثمار.