تونس وجدلية التجميع / التفتيت

بقدر ما نقترب من مواعيد انتخابات الخريف القادم تتكاثر وتتناسل المبادرات الحزبية

والمواطنية للتجميع سواء تعلق التجميع بالعائلة الوسطية أو اليسارية أو المواطنين النزهاء..
والسؤال هنا هو : هل تساهم هذه المبادرات، فعلا ، في تجميع ما تدعي تجميعه أم هي زيادة لتذرير المشهد وعوائق جديدة أمام التجميع المنشود ؟

الفلسفة الكامنة وراء كل هذه المحاولات هي اعتقاد أن العرض السياسي الحالي غير ملائم وانه مهترئ ولم يعد يستطيع أن يستجيب لتطلعات المواطنين اليوم ، ولهذا كان لابد من التجديد خارج الأطر المتاحة لممارسة السياسة أي خارج اطر الأحزاب السياسية بشكلها الحالي ..
قد يكون لهذا الرأي بعض الوجاهة ولكن هل عجزت فعلا كل أحزابنا القانونية ، وعددها قد بلغ 216، عن تغطية كل العرض السياسي الممكن؟

عندما نطرح السؤال بهذه الشاكلة تكون الإجابة واضحة : العرض السياسي في تونس واسع جدا ولا وجود لعائلة فكرية أو حساسية سياسية واجتماعية دون تمثيل حزبي ، بل دون وفرة عرض حزبي للحساسية الواحدة للمقارنة في بلاد كفرنسا كان عدد الأحزاب إلى نهايات ثمانينات القرن الماضي لا يتجاوز الثلاثين وهو وإن ناهز اليوم الخمسمائة فيعود ذلك لاعتبارات تمويل الأحزاب أي أن الغالبية الساحقة للأحزاب الصغيرة الجديدة إنما بعثت لجمع التمويل العمومي للأحزاب الأصلية فقط لا غير ..

الطلب السياسي الفعلي في أي بلاد لا يمكن أن يتجاوز بضعة أحزاب كبرى وما بين عشرة أو عشرين حزبا من الحساسيات الثانوية وفي تونس ، كما أسلفنا ، لدينا أكثر من حزب لكل عرض مخصوص فلم إذن البحث دوما وبمناسبة كل انتخابات عن «عروض» جديدة تدعي كلها «تجميع المبعثر» في استعارة لعنوان الكتاب الجديد للسياسي والمثقف بوجمعة الرميلي ؟

في الحقيقة لا يخلو الأمر من أحد افتراضين :
- الأول هو عدم الثقة في القيادات الحزبية التي تمثل التيار الفكري والسياسي المزمع توحيده والاعتقاد بأن هذه القيادات لا تستجيب ولن تستجيب لطموحات قواعدها الانتخابية ولذا ينبغي تجاوزها بمبادرات يظن أصحابها بأنها ستكون أكبر وأعم وأشمل من الأحزاب القائمة ..
- الثاني هنالك شخصيات سياسية اعتبارية أو نشطاء في المجتمع المدني يعتقدون أنهم لم يجدوا داخل المنظومة الحزبية المكانة اللائقة بهم وأن هذه الأحزاب قد تنكرت لهم أو لم تعبأ بهم وعليه فالواجب هو تجاوزها وخلق ديناميكيات خارجها ليفرض عليها التجميع أي الاعتراف بهذه الشخصيات الاعتبارية رغم انفها ..
وهنا نجد أنفسنا من جديد في معضلة بعض أحزاب المعارضة التونسية قبل الثورة وبعدها : التقارب في الأفكار والتباعد في الجهد نظرا لتضخم مشكلة الزعامة وتوفر البلاد على عدد هام من «الزعامات» لا يتناسب مطلقا مع حجمها الانتخابي ..

نحن أمام منطق يبدو غريبا إلى حد ما : شخصيات سياسية تنتمي لتيار فكري وسياسي ما ترى أن الأحزاب المعبرة عن هذا التيار ضعيفة فعوض أن تدعمها وتقويها تعمد إلى خلق هياكل ومبادرات جديدة تكون عادة نتيجتها مزيد إضعاف هذه الأحزاب دون أن تتمكن هذه المبادرات من إعطاء أفق أرحب لها فبدل أن تكون جزءا من الحل نجدها تعمق أزمة عائلتها السياسية وتزيد في تذررها بدل توحيدها ..

المفارقة التونسية أننا لا نميز في تونس في أحيان كثيرة بين المسارات الجماعية والمغامرات الفردية وهنا نجد أن الحركة الإسلامية تمثل لجل منافسيها وخصومها مرآة عاكسة بالمعكوس أي أنهم يرون فيها عيوبهم مجتمعة ، فالخلافات الداخلية الكبيرة أحيانا داخل حركة النهضة لا تنتهي – إلى اليوم على الأقل – بالتشظي بل تحافظ على وحدتها الداخلية رغم التباينات الهامة التي تطفو على السطح ، في المقابل نجد عدة أحزاب ومبادرات ومستقلين لا نكاد نجد فروقا تذكر بينهم ورغم ذلك تمنعهم صراعات الزعامة من التوحد الأدنى ومن تقديم عرض سياسي ذي جاذبية دنيا للمواطن / الناخب ..

لقد دفعت عدة تيارات فكرية ثمن التذرر غاليا في 2011 ولكن يبدو أن الاتعاظ كان نسبيا للغاية إذ نرى نفس أخطاء الماضي بصدد التكرر الآن ولا ندري هل سيتعظ هؤلاء يوما ما ..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115