العدالة الانتقالية في مجهر مجلس نواب الشعب: التونسيون والذاكرة المنقسمة

لقد افضنا كثيرا في ما حصل في مجلس نواب الشعب يوم السبت ولكن جاء يوم الاثنين بالجديد/ القديم...

لقد كشف النقاش العام الذي حصل يوم أمس في مجلس نواب الشعب حقيقة كدنا ننساها وهي انقسام الذاكرة الحيّة التونسية وبالأحرى انقسام ذاكرة نخبنا بالأساس.. انقسام عميق حول تقييم محصّلتنا التاريخية المعاصرة، محصّلة دولة الاستقلال وما رافقها وما سبقها وما تلاها..
إن النقاش حول مسار العدالة الانتقالية ودور هيئة الحقيقة والكرامة ومسؤولية رئيستها، كل هذا ثانوي إلى حدّ بعيد بالنظر للشرخ الذي اتضح في مجلس نواب الشعب والذي يعكس بدوره شرخا عميقا عند عامة التونسيين..

أحيانا يبدو لنا وأنّنا متفقون على تقييم تاريخنا المعاصر عندما نقول بأنّ دولة الاستقلال قد حققت منجزات كبيرة ولكن هذا المسار شابته نقائص عديدة أهمها الحكم التسلطي وانتهاكات حقوق الانسان.. ويبدو لنا أننا هكذا قد أنجزنا التأليف المنشود ولكننا مخطئون وواهمون.. صحيح أن عموم السياسيين لايقولون شيئا يبتعد كثيرا عن هذا التأليف المنشود ولكن في الحقيقة ما تقوله الألسن تناقضه القلوب وعندما يكون الرهان بحجم ما حصل في مجلس نواب الشعب ينكشف المستور وتنطق الألسن بما يختلج في القلوب..

هنالك جزء هام من التونسيين يقرّ بوجود انتهاكات جسيمة لحقوق الانسان في نظام بن علي ولكن يعتبر أن فترة حكم بورقيبة ايجابية جدا في مجملها رغم ما شابها من حكم فردي ومن محاكمات سياسية..

لا جدال في أن بورقيبة يمثل بالنسبة للعديدين منّا رمز الهوية الوطنية دون أن يعني هذا تنزيه حكمه من الأخطاء والانحرافات وانتهاكات حقوق الانسان.. ولكن لا يقبل هذا الجزء الهام من التونسيين بأن يقدم بورقيبة وزعماء الحركة الوطنية كعملاء للاستعمار الفرنسي وكمستبدين ومرتزقة مفسدين.. ويبدو أن هنالك احساسا قويا من قبل هؤلاء التونسيين أن رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة وجزء من الترويكا السابقة ومن قوى سياسية معارضة أخرى بنسب متفاوتة قد نهجوا نهج التشهير ببناة دولة الاستقلال من أجل فرز «ثوري» جديد.. فرز بين «القديم» كل القديم بغثه وسمينه و«الجديد» المتمثل فقط فيهم لا غير..

هكذا فهم جزء من التونسيين المسار الفعلي للعدالة الانتقالية: انتقام من بورقيبة ومن بناة دولة الاستقلال بالأساس واثارة الشكوك حول وطنيتهم.. ودفع هذا الاحساس بعدد هام من هؤلاء التونسيين، من سياسيين ومن مواطنين إلى رفض الانصات لآلام وجراحات ضحايا بورقيبة وبن علي وإلى اتهام الجميع بالنفاق وأحيانا بالارهاب أو بالخيانة..
هنالك ذاكرة حيّة جريحة في بلادنا، ذاكرة عشرات الآلاف من الذين تعرّضوا لانتهاكات ومن مئات الآلاف من عائلاتهم وذويهم.. ذاكرة حية جريحة لم تضمّد بعد في العمق ولا يمكن لها أن تضمّد دون مسار طويل ومعقد يعترف فيه المجتمع، كل المجتمع، بهذه الجراحات وهذه الآلام.. هذا هو مسار الاعتراف والذي يمثّل المستوى الأعلى والأرفع في العدالة الانتقالية..

هذا الشرخ العميق في الذاكرة الحيّة كان يستوجب عملا بيداغوجيا ومرافقة نفسية وسياسية دقيقة للغاية.. وهذا الدور كان مناطا بعهدة هيئة الحقيقة والكرامة بالتعاون مع كلّ هيئات الدولة وقوى المجتمع.. ولكن انخراط الهيئة ورئيستها في حرب دونكيشوتية من أجل إعادة كتابة تاريخ تونس بالكامل قد أطلق رصاصة الرحمة على مسار لم يرتق -إلاّ في حالات محدودة- إلى الأفق الرحب لمعرفة الحقيقة ولتضميد الجراح ولتأليف فعلي وانساني للذاكرة الحية للتونسيين..

واليوم لا يهم أن يتم التمديد أو لا يتم لهيئة الحقيقة والكرامة.. المهم اليوم هو الانتباه لهذا الشرخ العميق الذي يهدد بدوره الوعي الوطني المشترك..

الحل ليس في الحيلة أو التحيّل.. الحل في حوار يدور بين عقول راجحة لا تصمّ آذانها على جراحات تونسيين.. الحل في ذاكرة حية موحدة لا تغمز في وطنية بناة دولة الاستقلال ولا تدير ظهرها لجراحات المظلومين.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115