راحة تتلو الانتخابات البلدية ونتائجها التي يفترض أن تدعم أو تفند عدة استراتيجيات وراحة تسبق الاستعداد لأهم المعارك في نهاية 2019 :التشريعية والرئاسية وربما تنضاف إليهما كذلك الانتخابات الجهوية..
لا أحد مسؤول بذاته عن هذه الروزنامة الجنونية ولكن لاشك أن جلّ الأحزاب الممثلة في البرلمان بحكمها ومعارضتها هي التي أجلت الانتخابات البلدية عن موعدها الطبيعي في أوائل 2017 وكنا بذلك سنتجنب هذا الماراطون المرهق للبلاد..
المهم على كل حال أن كل الآلات الحزبية الكبيرة والصغيرة منها تشتغل اليوم بأقصى قوة ونضيف إليها ،بالطبع، كل من له طموحات ظاهرة أو خفية في الانتخابات العامة وكل من له مصلحة مع أحد السيناريوهات الممكنة والتي ستتضح خيوطها جميعا بعد حوالي السنة من اليوم ..
وبطبيعة الحال تتداخل هذه الروزنامة الانتخابية مع الروزنامتين السياسية والاجتماعية واللتين ترتبطان بصفة كبيرة مع الروزنامة الاقتصادية ..
كل هذه التداخلات بين مختلف الروزنامات تعسّر من قرءاة المشهد وتجعل كل الفاعلين الحاليين في حالة تأهب دائمة لأن قانون اللعبة في الماراطون قائم على الاقصاءات المتتالية.. فالأساسي اليوم عند هؤلاء الفاعلين ليس فقط الربح بل تجنب الإقصاء الآن حتى يمكنهم الدفاع عن حظوظهم كاملة يوم يفتح باب السباق بصفة رسمية ..
والإقصاء أصناف شتى ويتأقلم مع صنف كل مترشح..
فالإقصاء بالنسبة لزعيم حزب معارض (أو بالأحرى خارج منظومة الحكم) لا يعني بالضرورة الهزيمة في الانتخابات البلدية القادمة بل الهزيمة النسبية ، أو الانتصار النسبي هو الأهم بالنسبة له أي لا يهم نتيجته الذاتية بقدر ما يهمه ترتيبه بالمقارنة مع الخصوم من صنفه الخاص ،فإن هزمه زعماء من صنفه فستكون الطامة الكبرى أما إن انتصر عليهم رغم هزيمته العامة فذلك انتصار نسبي لأنه تجنب الإقصاء النهائي ..ولكن في تونس هنالك صنف معروف في أحيائنا الشعبية وكذلك في حياتنا السياسية وهو الصنف الذي لا يتعظ من كل هزائم الدنيا ويبقى يناجز وحده كدون كيخوت إلى قيام الساعة ..
الواضح اليوم انه لدينا منافس هام ومن طراز خاص:
إنّه رئيس الحكومة ذاته والذي لا يمكنه المشاركة مباشرة في الانتخابات البلدية القادمة وقد كان في الماضي القريب يخشى انهيار حزبه فيها خاصة بعد الانتخابات الجزئية بألمانيا في نهاية السنة الفارطة..
أما اليوم وقد تمكن النداء من الترشح في كل الدوائر ولم يعادله في ذلك سوى النهضة فلابد من الاستفادة من انتصار محتمل للحزب الذي أسسه الباجي قائد السبسي، أي ألا تستفيد فقط القيادة الحالية للنداء من انتصار محتمل في ماي القادم وان يشاركها في ذلك صاحب القصبة ابن النداء والحليف/المنافس لصاحب «الباتيندة» الجديد حافظ قائد السبسي..
إستراتيجية يوسف الشاهد قائمة ،كغيره،على تجنب الإقصاء ..والإقصاء بالنسبة له هو الخروج المبكر من القصبة..
منذ أشهر كان رأسه مطلوبا من حزبه والحزب الشريك الحليف آنذاك حركة النهضة ونذكر جيّدا القصف المزدوج والمكثف ذات غرة أوت 2017:
حوار تلفزي لأفندينا بربطة عنق جديدة يطالب فيها يوسف الشاهد بأن يعلن بأنّه غير معني لا هو ولا حكومته بانتخابات 2019 وقبل ذلك بساعات قليلة تدوينة شهيرة لـ«ولد سيدنا» يعلن فيها الفشل الاقتصادي والاجتماعي لما يسمى بحكومة الوحدة الوطنية ..وحينها تدخل الأمين العام لاتحاد الشغل بكل قوة لتسفيه هذا المخطط ثمّ رفض القصر الانخراط فيه وسحب «الشيخ الأكبر» البساط من تحت أقدام «الشيخ الأصغر» الذي اعتقد أنه أحسن صنعا ..
تمرّ الأسابيع والأشهر ورغم التنازلات الهامة التي قدمتها حكومة الشاهد للمنظمة الشغيلة في قانون الميزانية إلاّ أن وضع البلاد لم يتجه بوضوح نحو الأفضل وتتالت الأخطاء والتصنيف في القائمات السوداء، والاحتجاجات القطاعية فأعلن الأمين العام للاتحاد في سيدي بوزيد بأن الوضع سيئ ولكنه تجنب تحميل المسؤولية لصاحب القصبة بل طالبه فقط بضخ دماء جديدة وبإبعاد الفاشلين من حكومته ومن أجهزة الدولة..
ولكن الواضح ورغم كل تحوطات المنظمة الشغيلة فإن نقد أداء بعض الوزراء أو كبار المسؤولين في الدولة إنما هو نقد لرئيس الحكومة المسؤول أولا وأخيرا عن حوكمة حكومته وظهور خلل كبير فيها -حسب اتحاد الشغل – إنما يعود بلا شك إلى خلل في الحوكمة العامة لا إلى المردود الشخصي لوزير أو لمسؤول بعينه ..
على كل حال هكذا فهم يوسف الشاهد نقد اتحاد الشغل والواضح أنه استاء من علانيته ومن الصدى الإعلامي الذي أخذه فأراد في حواره للقناة الوطنية الأولى يوم الأحد الفارط توضيح أنه وحده ربّان سفينة الحكومة وانه وحده يقرر متى يقع تغيير وزاري وأنّه لا سبيل إلى ذلك الآن ..
لاشك أن تصريحات الطبوبي تدق مسمارا في اسفين إستراتيجية البقاء وقد تكون على صاحب القصبة أقسى من كل التصريحات السابقة لأنها جاءت من صفّ صديق يعتقد الشاهد انه فعل كل ما في وسعه لتجنب غضبه والسؤال الهام هل ستنتقل علاقة الاتحاد بالحكومة من الودّ المتبادل إلى مرحلة تحكمها كل ألوان الصراع من الفاتر إلى القوي ؟ أم هل سيتراجع يوسف الشاهد عن كل إصلاحاته الطموحة حفاظا على ما تبقى من ودّ جماعة ساحة محمد علي ؟
الأكيد على كل حال أن الموقف الأخير لاتحاد الشغل لم يكن في حسبان الأدمغة المفكرة في القصبة وان الاضطرار لإظهار شيء من الصرامة قد يعرض يوسف الشاهد الى المزيد من النقد النقابي وأن إستراتيجية «جل النقد الموجه للحكومة ناجم عن محاربتها للفساد وعن التحركات الخفية والمعلنة لباروناته» لها حدود واضحة وإلا تحول كل نقد لأداء الحكومة إلى خدمة مسداة للفساد والفاسدين في حين أن العديدين ممن تحوم حولهم شبهات قوية في الفساد هم بصدد تقديم ولاءات العرفان للحكم ..
هذا التعقيد الجديد المطروح اليوم على صاحب القصبة ينتظر أجوبة عدة : سياسيا في البدء ولكن كذلك اقتصاديا واجتماعيا.. وهنا مكمن الداء لأن الوضع العام في البلاد سيّئ رغم التحسن الطفيف هنا وهناك و«الحرب على الفساد» قد فقدت بريق الأسابيع الأولى وهي لم تتمكن إلى الآن من ايجاد نفس جديد..
ولكن وفي كل الأحوال لا نتصور أن القصبة ستقدم على تغيير واضح وجذري في إستراتيجيتها السياسية لأنها تصارع خصوما شتى من بينهم الزمن، وإستراتيجية البقاء تقوم دوما على التوقي ونادرا على الهجوم لان الهجوم قد يعرض صاحبه إلى هجوم معاكس قاتل بينما التوقي يقوم على مبدإ تحصين الدفاعات الخلفية والمراوغة في المنازلات الفردية ..
وبمّا أن العبرة في السياسة كما في الرياضة هي بالنتائج فقد لا نشهد بداية نزال حقيقي إلا في المرحلة الأخيرة من الاستعداد للانتخابات العامة عندما يعلن الفاعلون الأساسيون- ومن بينهم رئيس الجمهورية – عن نواياهم الفعلية وعن تصوراتهم للحكم وللتحالف للخماسية القادمة..
الماراطون السياسي الانتخابي التونسي هو ككل الماراطونات ينطلق من بعيد جدّا ولكن لا يصبح فرجويا إلا في الكيلومتر الأخير..