لعبة: الزعامات

أبانت التحوّلات السياسية الأخيرة عن حقيقة مفادها انهيار الزعامات السياسية فما استطاع أمناء الأحزاب المتصارعة ولا الشخصيات الماسكة

بزمام السلطة أن يحتلّوا مكانة في نفوس الجماهير تضاهي منزلة جمال عبد الناصر ولا الحبيب بورقيبة ولا غيرهما ممن تمتّعوا بكاريزما وظلّوا متربّعين على عرش المتخيّل السياسي الجمعيّ. فالفاعلون السياسيون بعد سقوط الأنظمة وتخلخل البعض الآخر عجزوا عن التحوّل إلى نماذج قيادية تحفّز الشباب على محاكاتها واتباع خطاها والانتماء إليها. ألم تكن الأجيال تنعت بجيل الناصريين وجيل البعثيين و... فما الذي حدث ؟ هل حدثت القطيعة بقتل الأب فانهارت السلطة الأبوية بل الأشكال القديمة لتمظهر السلطة؟

إذا تأمّلنا في واقع الاحتجاجات الأخيرة من زاوية ترصد تحركات المراهقين الذين فارقوا بيوتهم وتناسوا واجباتهم التعليمية وانغمسوا في حرب الشوارع مستمتعين بعمليات الكرّ والفرّ مع «الحاكم» ومتجاهلين عواقب العبث بالقوانين ... بان لنا واقع مختلف عن المألوف من سماته استقالة الأبوين وشعورهما بالغبن وقلّة الحيلة فلا سلطة بيدهم ولا إمكانية للاضطلاع بأدوارهما التربوية وهو واقع باتت تعيشه آلاف الأسر. .. واقع انهارت فيه سلطة «المراقبة والعقاب» وسلطة الضبط والتقويم وضعفت فيه أشكال المتابعة وارتبكت فيه بنية العلاقات.

ولئن عرّت الاحتجاجات واقع الأسر التي تعيش العوز أو قلّة ذات اليد وكشفت عن علل التنشئة الاجتماعية زمن الأزمات واستشراء المناويل الاقتصادية المتوحّشة فإنّ ارتباك منظومة التربية واستقالة الأسرة وعزلة الأبناء وتمردّهم على النماذج التي تمثّل القدوة التقليدية لا يقتصر على طبقة دون أخرى بل هو رصيد مشترك ... للغنيّ طبعا أن يغدق الهدايا على أبنائه في محاولة للتكفير عن ذنب الغياب والتقصير و... وللفقير أن يلقي بالمسؤولية على الأستاذ والمدير والحاكم ...ولكن لا أحد يملك الشجاعة على طرح الأسئلة الحقيقية: لمَ بات الشارع الملاذ ؟ ولمَ صار الانتماء إلى الجماعات العضوية هو البديل عن الانتماء إلى الأسرة؟ ولمَ صار الأصحاب يمثّلون الخلاّن الأوفياء؟ ولمَ صارت «الحرقة» مع الجماعة خلاعة؟ ولمَ باتت

الهجرة إلى الجماعات الجهادية خير وسيلة للتعويض عن الحرمان العاطفي؟
يتمثّل اليافعون الشارع على أساس أنّه فضاء واقعي يتطابق مع الفضاء الافتراضي فيه يختبرون ما تلقّوه من مبادئ وقواعد مارسوها في الألعاب games المشاعة بالعدل بين جميع الفئات الاجتماعية ولذلك يعتبر «الحاكم» العدوّ اللدود ولا يهمّ إن كان اسمه «الحنش» أو «الطاغوت» أو...المهمّ أنّه يمثّل السلطة التي تقف لهم بالمرصاد فتحول دون تحقيق الأماني ولذلك يكون أفضل ردّ على الأعداء هو تدميرهم فإن لم يتسنّ ذلك كان تخريب المؤسسات والعتاد وإشعال الحرائق...هي متعة أفلام الأكشن Action، وهي فرصة لاختبار القدرات والمهارات واكتساب الألقاب والزعامات.

إنّها زعامات من صنف آخر لا تستند إلى قوةّ الخطاب ، وبلاغته و مهارة التأثير في الجماهير من خلال السرد وعرض الأمثلة التاريخية ... بل إنّها زعامات تعرض قوّة العضلات ، والجرأة على العبث بالمعايير وتجاوز الحدود والقوانين... إنّها زعامات ترفض الخضوع للقانون ولمن يرمز له...فلا غرابة أن تجد في احتجاجات الشارع فرصة للتنفيس ولاختبار الرجولة الباطشة بالآخرين.

غير أنّ احتجاجات المراهقين تناسلت من رحم احتجاجات الكهول أولائك الذين قطعوا الطريق هنا وهناك وعطّلوا المصالح وأحدثوا الأضرار وآذوا الناس. ولعلّ ما حدث البارحة في جزيرة قرقنة خير مثال على تفشّي هذا السلوك وانتشار هذه الممارسات التي تحوّلت إلى ظاهرة. وكلّما عجزت الحكومة عن معالجة الوضع تمكّن الداء من شبابنا وصارت العدوى مغرية.

فكيف يمكن أن نقنع المراهقين باحترام القانون وعدم استعمال العنف وسيلة لحلّ المشاكل وهم يعاينون لعبة ينخرط فيها الكبار فـ«يحرقون العجلات» و«يبنون الحواجز» و«يسدون الطرقات» ..وهم يلاحظون لعب «الشطّار» من أهل المال والأعمال والإعلام والسياسة بالعقول؟
اللعبة أكبر من اليافعين إنّها لعبة تدمير شامل للقيم والمٌثل والنماذج، القدوة التي بإمكانها أن تعيد القاطرة إلى الطريق.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115