البعض خائف على ممتلكاته وعائلته خاصة إن كان يعيش أو يشتغل أو يدرس في مناطق قريبة من أعمال العنف هذه والبعض خائف على البلاد ومستقبلها والبعض الآخر يمني النفس بمغادرة البلاد وأهلها وشغبها وعنفها وكل أصناف انفلاتاتها..
لا يمكن ألاّ ندين العنف أيا كان شكله وتمظهره وحجمه وسواء تعلق الأمر بالأشخاص أو بالممتلكات.والمجتمع الديمقراطي المتوازن هو الذي يعاقب كل مظاهر العنف بما يتناسب والجرم المقترف..
ولكن عندما يتحول العنف أو التخريب من ظاهرة معزولة يمارسها بعض المنحرفين إلى سلوك تنخرط فيها مجموعات كبيرة العدد نسبيا ،كما يحصل الآن في عدة أحياء ومدن بعد غروب الشمس ،لا يمكن أن نكتفي هنا فقط بالتنديد ،ولا يمكن أن ندير وجوهنا وعقولنا عما يجري في بلادنا وعمّا يقوله هذا العنف المدان من حقائق عن مجتمعنا لا نريد أن نراها ماثلة أمام أعيننا .
كل عملية تحديث في المجتمعات العصرية وبغض النظر عن حجمها وطبيعتها وسرعتها تنتج بصفة شبه آلية فئات تندمج فيها وفئات أخرى تُهمش عنها بنسب مختلفة..
وبقدر سرعة التحديث تكون سرعة التهميش أيضا وعادة ما نجد أن خطوط التماس والانكسار بين المدمج والمهمّش هي نفس خطوط التماس الموروثة قبل عملية التحديث العصرية أي أن الفئات الاجتماعية الأكثر حيوية وتنوعا في نشاطها الاقتصادي والأكثر ارتقاء في السلمين الاجتماعي والمعرفي هي التي تتمكن من مسايرة عملية التحديث بل ومن توجيهها في حين لا تتمكن الفئات الأخرى ضعيفة الاندماج في المجتمعات التقليدية من مسايرة النسق السريع للتحديث الاقتصادي والاجتماعي والمعرفي فتجد نفسها على الهامش بل على ما يمكن أن نسميه بالهوامش لأن التهميش يزاوج بين الأبعاد المجالية (الجغرافية) والاجتماعية والمعرفية (أي التعليمية كمّا وجودة).
ولكن تفطنت كل الدول الصناعية الكبرى إلى أن التهميش خلق ما يشبه المجتمع الموازي وعمّق الفوارق الموروثة وخلق داخل هذه المناطق ثقافة مضادة للنظام وللنخب وتفشت الجريمة بأصنافها وأضحى العنف المادي والرمزي هو احد مقومات «هويتها».. وهكذا نشأت الأحياء القصديرية وازداد تهميش المناطق الريفية وأنتجت المدن الكبرى ما يشبه «الغيتوات» حيث يتم التمييز المجالي بين الأهالي ،فالمندمجون والمهمشون لا يعيشون في نفس الأحياء ولا يذهبون إلى نفس المدارس ولا يختلطون في الفضاءات الخاصة..
أمام هذا التشقق المجتمعي أنتجت الدول الصناعية الكبرى ،بدءا بالولايات المتحدة الامريكية ومنذ ستينات القرن الماضي ،زمن حكم جون كيندي،ما يسمى بسياسات التمييز الايجابي لأهالي مجالات التخوم إذ لوحظ آنذاك انه قد انضاف إلى التمييز الاثني القديم ضد السود تمييز في التعليم والشغل والمراكز الاجتماعية المتقدمة ففرضت الدولة الفيدرالية على كل الجهات
التي تحصل على تمويل عمومي من عندها ان تقوم بإجراءات ايجابية تحاسب عليها في إطار هذا التمييز الايجابي..
وبغض النظر عن تقييم هذه السياسات على امتداد أكثر من نصف قرن فلقد كانت نتيجتها المباشرة خلق نخب مالية وسياسية واجتماعية وفكرية وفنية وإعلامية..في صفوف السود بدرجة أن «الحلم الأمريكي» لم يعد محصورا ،كما كان الأمر من قبل ،في الأهالي البيض من أصول أوروبية
وكالعادة انتقلت هذه الفكرة إلى بعض دول أوروبا بعد عقدين أو ثلاثة لمعالجة قضية التهميش الاجتماعي ثم وضعنا هذا المبدأ في الدستور التونسي في فصله الثاني عشر «تسعى الدولة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة والتوازن بين الجهات استنادا إلى مؤشرات التنمية واعتمادا على مبدإ التمييز الايجابي (..)» وعيا منا بتأخرنا الكبير في هذا المجال.
ما نقوله لا يعني أن دولة الاستقلال لم تستثمر في المناطق المحرومة سواء كان ذلك على مستوى البنية التحتية أو الخدمات العمومية أو الحياة الاقتصادية ولكنها لم تشتغل مطلقا على مفهوم «التمييز الايجابي» وهذا مازال موجودا إلى اليوم ورغم إقرارنا له في الدستور منذ أربع سنوات..
وقبل ذلك علينا أن نتساءل : لماذا يمثل التمييز الايجابي ضرورة تنموية وإنسانية حياتية لتونس ؟ لأننا لو اكتفينا بالمراهنة على تعافي المالية العمومية وعودة نسق الاستثمار لتطلب الأمر في بعض مناطق التخوم جيلا كاملا ، وهذا ما لا يمكن أن يقبله أحد..
تقوم فكرة التمييز الايجابي على مبدإ سهل: إصلاح الاختلال الكبير في الفرص بين صنفين من المواطنين بإجراءات تعطي أولوية للمهمش على حساب المندمج. لنأخذ مثالا واحدا عن التمييز الايجابي. نعلم جميعا أن منظومة التوجيه الجامعي لا تراعي إلا النتائج التي يحصل عليها التلاميذ في الامتحانات الوطنية للباكالوريا وبصفة ثانوية لنتائجهم وسط السنة الدراسية وهذا ما يجعل من الشعب «النبيلة» كالطب والهندسة والدراسات التجارية العليا حكرا على المتفوقين والذين ينحدر جلهم من الأوساط الاجتماعية والمعرفية المرتفعة إلى حدّ ما بينما تكون حظوظ تلاميذ الطبقات الفقيرة والمهمشة فيها ضعيفة..
بالإمكان أن نرصد ثلث المعتمديات التي تعيش أوضاعا اجتماعية صعبة وان نخص تلاميذها بنسبة معينة من المقاعد في الشعب النبيلة ،والهدف من كل هذا هو أن نقول لكل تلميذ ولكل عائلة في كل معاهدنا الثانوية في مناطق التخوم انه بإمكان كل واحد منهم أن يصبح طبيبا أو مهندسا أو خبيرا محاسبا أو صيدليا بشرط أن يتفوق في مدرسته وجهته..
يمكن ان نعمد إلى هذا الإجراء انطلاقا من السنة القادمة بدلا من انتظار إصلاح منظومة التعليم بعد عقد أو عقدين من الزمن..
يمكن أن نطبق سياسات عمومية فيها تمييز ايجابي في كل المجالات العامة من تربية وثقافة ورياضة وفق تقييم مجالي موضوعي بوضع حوالي ثلث المعتمديات في خانة السياسات العمومية التي تجبر كل الفاعلين على التمييز الايجابي كأن نشترط في دعم المنتجات الثقافية أو النشاطات الرياضية بقدر تحقيقها لتمييز ايجابي يقاس ونتحاسب عليه ،وان نحقق ذلك أيضا في سياستنا التشغيلية بصفة إجبارية في القطاع العام وبصفة تحفيزية في القطاع الخاص..
وغاية هذه السياسات هي أن تزرع الأمل من جديد في مناطق قد فقدته بالتمام والكمال وأن نحطم منطق «الغيتو» وان نفكك عصابات الإجرام والعنف التي تقتات من فقدان الأمل هذا ..
المسألة لا تتطلب تمويلات استثنائية أو تداينا إضافيا بل حلولا مبتكرة تصلح بها الدولة تدريجيا عقودا من التهميش المجالي والاجتماعي والمعرفي ..
حينها ،وحينها فقط ،يمكن لمجتمعنا أن يخرج بصفة جوهرية من دوامة التهميش والعنف وان نؤسس لحلم جماعي يكون شعاره أن التفوق والتميّز المدرسي والمعرفي والاجتماعي والمالي متاح لأكبر عدد ممكن من المواطنين لا أن يكون دُولَة بين فئات بعينها تتوارثه ابا عن جدّ بينما يحرم منها حوالي ثلث المجتمع التونسي..