كثر الحديث عن نهاية عصر السيادة الوطنية وانه لم يعد لها المكانة التي كانت لها بفعل تداخل وتشابك التبادل التجاري وما يفترضه ذلك من انخراط الاقتصاديات الوطنية إنتاجا واستهلاكا في هذه المنظومات الجديدة..
وما انضاف إلى كل هذا خاصة لدى ما يسمى ببلدان العالم الثالث هو الحدود الجديدة على القرار الوطني لا فقط اقتصاديا وتجاريا بل وكذلك في العديد من السياسات العمومية مع تنامي مراكز النفوذ والتأثير العابرة للقارات..
والعولمة عولمات إذ سعت دول كثيرة للعب ادوار التأثير والهيمنة الإقليمية بعضها سافر يظهر في شكل حروب وفتن داخلية وآخر ناعم يرتكز على تمدد النفوذ عبر بوابات داخلية واستعداد جهات سياسية أو مدنية للانخراط بصفة واعية أو ضمنية في سياسة المحاور والحضور الناعم للقوى التقليدية أو لقوى إقليمية صاعدة ..ولعل الثورة التونسية بما أحدثته من ارتباك للمنظومات السياسية القديمة وما صاحبها من استراتيجيات دولية وإقليمية للتأثير في القرار الوطني قد تعطينا نموذجا مصغرا عن هذا الوجه غير المعلن في العولمات الجديدة..
لقد أفقنا في بلادنا عن وضع جديد أصبحت فيه قوى سياسية واضحة واخرى ناشطة في المجتمع المدني أو الإعلامي معلنة وغير معلنة تجدها تنبري بأشكال مختلفة لتدافع عن قطر أو الإمارات أو تركيا أو السعودية حتى عندما تتناقض مصالح هذه الدول ،وغيرها،مع مصلحة وطنية عامة أو خاصة..وأصبحنا نرى عندنا من يجد الأعذار للإمارات عندما تتخذ قرارا يمس من كرامتنا الوطنية أو لتركيا ولتجارتها الخارجية على حساب توازناتنا المالية أو مدافعا عن اختيارات قطر الإقليمية أو منخرطا في حرب المملكة السعودية على خصومها أو العكس..والمقلق في كل هذا أننا لم نعد أمام وجهات نظر وتحليل لمعطيات وبناء لمواقف تتنوع بتنوع الظرفيات ،بل أصبح البعض يتصرف وكأنه حزب الإمارات أو حزب قطر أو حزب تركيا،هذا دون الحديث عن الدول الكبرى الأخرى والتي لديها أيضا نوع من الأذرعة السياسية والمدنية هي الأخرى..
نعلم جيدا أننا نتحدث عن موضوع دقيق يصعب فيه الحسم فما بالك بالاتهام
ولكن لا يمكن الصمت عن ارتهان القرار الوطني دون اتهام احد في شرفه أو وطنيته..
لا يمكن لتونس كدولة أو كشعب أو كنخب أن يكون لها أعداء بالمعنى الدقيق للكلمة فنحن لا نبحث إلا عن شراكات مفيدة لنا ولكل أشقائنا وأصدقائنا ولكن نريد شراكات متأسسة على تقدير ذاتي مستقل للمصلحة الوطنية لا ارتباطات شبه عضوية مع هذه الجهة أو تلك..
تعلمنا دروس السياسة العربية والدولية أن هذه الارتباطات شبه العضوية لا تكون فقط عقائدية أو سياسية بل يرتبط فيها هذان البعدان مع التبعية بكل معانيها وهذا ما لا نرغب أن تقع فيه تونس بأي شكل من الأشكال فنحن لا نريد لبلادنا أن تصبح لبنانا جديدا لا تفهم خصوماتها الداخلية إلا بالرجوع إلى الاستراتيجيات الهيمنية لمختلف عرّابيها.. نحن لا نتحدث عن خطر محتمل بل عن مؤشرات نتمنى أن نكون قد أخطانا في قراءتها ،وهذا ما يفرض على الجميع يقظة مواطنية لتتبع كل شبهة تمويل أجنبي لأي طرف سياسي كان سواء انتظم في حزب حاكم أو في حزب معارض أو في شخصيات وتيارات مستقلة،كما ينبغي أن نتوافق على تأطير صارم لكل تمويل أجنبي يهم جمعيات المجتمع المدني إذ في حالات عدة يصعب التمييز بين النشاط السياسي الصرف وذاك الذي يلتحف لبوس نشاط جمعياتي ولكن غاياته واهدافه السياسية لا تخفى على احد..
ينبغي ان يفتح هذا الملف دون تخوين أو تضييق على احد، فمن حق الأحزاب والشخصيات والجمعيات ان تربط علاقات صداقة وتعاون مع جهات أجنبية في كنف الوضوح والشفافية المالية (بالنسبة للجمعيات) فكل هذه العلاقات مفيدة للبلاد ولإشعاعها ولمصالحها الإستراتيجية الشرط الوحيد هو الاستقلالية الفكرية والمادية للجهات التونسية حتى لا يصدق علينا المثل الشعبي القديم « اطعم الفم تستحي العين»..